
يشهد السوق العقاري المصري في الوقت الراهن حالة من الجدل المتصاعد حول مستقبل الأسعار، وقدرة السوق على الاستمرار في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، ووسط هذه الأوضاع يطلّ سؤال جوهري: هل نحن على أعتاب “فقاعة عقارية”؟
الإجابة ليست سهلة، لكنها – من وجهة نظري – تبدأ من فهم طريقة إدارة هذا القطاع الحيوي، ومن يملك حق صياغة القرار فيه، ومن يشارك في وضع التوصيات وتحديد الاتجاهات.
طالما ظلت المؤتمرات والمنتديات العقارية التي تناقش مشكلات السوق يشارك فيها أصحاب المصلحة أنفسهم أو المستفيدون من الوضع القائم، فلا تنتظر أن يحدث أي تغيير حقيقي.
فمن غير المنطقي أن يكون من يحقق أرباحًا من خلل المنظومة هو ذاته من يُكلف بإصلاحها. وهنا تأتي الحاجة إلى تدخل الدولة العاجل بفكر جديد ومختلف، لحماية جميع الأطراف، سواء المواطن أو المستثمر أو المطور أو المسوق.
الدولة – في الواقع – بدأت تتحرك بالفعل نحو هذا الاتجاه، عبر خطوات تنظيمية وتشريعية جادة تهدف إلى ضبط السوق ومنع التلاعب، وهو ما يستحق الدعم الكامل من كل الأطراف.
فالدولة وحدها هي الجهة التي يجب أن تمتلك زمام المبادرة، وأن تكون صاحبة القرار في تنظيم القطاع العقاري، من خلال وضع قواعد واضحة تضمن حقوق الجميع وتمنع أي تجاوزات أو استغلال.
الهيئة العليا للعقار المصري… الحلم الذي أصبح ضرورة
ومن هنا، أرى أن إنشاء الهيئة العليا للعقار المصري بات ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل.
هذه الهيئة يجب أن تكون مستقلة تمامًا، هدفها الوحيد هو تنظيم القطاع العقاري المصري ووضع السياسات التي تحقق التوازن بين مصلحة المواطن والمطور والمستثمر.
كما يجب أن تكون الهيئة العامة للرقابة المالية جزءًا أصيلًا من هذه المنظومة الجديدة، نظرًا لدورها الحيوي في مراقبة جميع التعاملات التي تتضمن منتجات تمويلية أو مالية داخل السوق العقاري.
فكل مطور يرغب في تقديم أنظمة تمويل لعملائه، ينبغي أن يحصل أولًا على ترخيص من هيئة الرقابة المالية، حتى تكون جميع تفاصيل التمويل – من فوائد ودفعات وجدول سداد – واضحة وموثقة أمام العميل، مثلما هو الحال في الأسواق المنظمة حول العالم.
هذه الخطوة ستمنع أي ممارسات غير شفافة أو عقود تمويلية مبهمة، وستخلق علاقة واضحة بين العميل والمطور تحفظ الحقوق وتحد من النزاعات.
أسئلة صريحة للسوق… هل يقبل بالتنظيم؟
إذا كنا جادين في إصلاح المنظومة، فعلينا أن نطرح الأسئلة الصعبة على أنفسنا:
هل يمكن أن يوافق المطورون العقاريون على عقد عقاري موحد يُلزم الجميع بنفس القواعد، ويحد من التلاعب في مواعيد التسليم أو شروط السداد؟
هل يمكن للمسوقين العقاريين أن يقبلوا شروطًا صارمة وتراخيص واضحة تفرض عليهم تسجيل جميع المعاملات والأسعار والعمولات بشفافية كاملة، ومنع أي تعامل نقدي خارج الإطار المصرفي، بحيث تتم كل المدفوعات عبر حسابات ضمان تخضع لرقابة الدولة؟
هل يمكن أن يلتزم المطور أو المسوق بوجود اشتراطات مالية قوية قبل بدء أي حملة تسويقية أو أعمال بناء، لضمان قدرته على التنفيذ وعدم وقوع المواطنين ضحية لمشروعات وهمية لا وجود فعلي لها سوى في الإعلانات؟
وهل يمكن أن يصدر تشريع يجرّم أي إعلان عقاري لا يتضمن سعرًا واضحًا ومعلومات موثقة وموافقات حكومية من الدولة؟
بل الأهم من ذلك، هل يمكن أن نصل إلى مرحلة تُصبح فيها البنوك هي الجهة المسؤولة عن التمويل العقاري بشكل مباشر بدلًا من المطورين، بحيث تقوم بمراجعة جميع العقود والموافقات والتراخيص ومواعيد التسليم قبل إقرار التمويل للعميل؟
في هذه الحالة، سنضمن حماية العميل والمطور معًا، وسنضع إطارًا ماليًا منظمًا يُنهي أي شكل من أشكال التلاعب.
الحياد والشفافية أساس الإصلاح
صانع القرار العقاري يجب أن يكون محايدًا تمامًا، هدفه المصلحة العامة فقط، لا مصلحة شخصية أو تجارية.
ولذلك، من الضروري تجريم أي تلاعب أو نشاط غير مشروع في هذا المجال، لأن العقارات ليست مجرد وحدات تُباع وتُشترى، بل قطاع يؤثر بشكل مباشر في الاقتصاد الوطني، ويُعتبر من أهم محركات النمو في أي دولة.
كما أن التحول الرقمي والتكنولوجيا العقارية (PropTech) لم تعد رفاهية، بل أصبحت ضرورة حتمية لضمان الحوكمة والشفافية.
يجب أن تخضع جميع المعاملات العقارية لمنظومة إلكترونية مركزية داخل الدولة، بحيث يتم تسجيل كل عملية بيع أو شراء أو تمويل بشكل فوري وموثق.
هذا سيساعد الدولة على تقييم حركة السوق بدقة، ورصد المؤشرات الحقيقية، وكشف أي تجاوزات أو تلاعب بسهولة.
طريق بناء سوق قوي وآمن
إن الطريق نحو سوق عقاري قوي وآمن يبدأ من تنظيم العلاقة بين الأطراف وضمان حقوق الجميع.
فبهذا التنظيم يمكننا بناء سوق يثق فيه المواطن والمستثمر والمطور والمسوق، ويكون قادرًا على جذب الاستثمارات الأجنبية وتصدير العقار المصري إلى العالم، مستفيدًا من الثروة العقارية الهائلة التي تمتلكها مصر.
عندما تصبح السوق منظمة وشفافة، ستتمكن الدولة من بيع العقار المصري للعالم بكل العملات، وستتوسع المشروعات العقارية في بيئة آمنة ومستقرة، ما يمهد لانطلاقة عمرانية حقيقية تعزز مكانة مصر كوجهة استثمارية رائدة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
لكن إذا استمر الوضع على ما هو عليه، دون تنظيم ورقابة وتشريعات حاسمة، فلن يحدث أي تغيير حقيقي، وسيبقى الحديث عن “الفقاعة العقارية” مطروحًا بلا حلول.
الخلاصة
إن حماية المواطن والمستثمر في المنظومة العقارية هي الأساس الذي يُبنى عليه أي سوق ناجح ومستدام.
بدون الحوكمة والشفافية والرقابة الفاعلة، لا يمكن لأي سوق عقاري أن يحقق استقرارًا أو نموًا حقيقيًا.
الوقت الآن هو الأنسب للتحرك، فالسوق في أمسّ الحاجة إلى قرارات شجاعة وتنظيم شامل يضمن التوازن بين أطراف المنظومة كافة، ويُعيد الثقة إلى القطاع العقاري كركيزة أساسية للاقتصاد الوطني.
*يذكر أن أحمد البطراوي – مؤسس منصة مصر العقارية، وخبير في تطوير وتنظيم الأسواق العقارية.