تصدى “أنور السادات” للمهمة الأصعب فى هدم “الجمهورية الأولى” باستهداف البشر قبل الحجر.. كان يعلم أنه لن يستطيع إقامة “الجمهورية الثانية” دون التخلص من الصف الأول لرجال “زمن عبد الناصر” بسرعة.. نفذ ضربته التى أطلق عليها “ثورة كوبرى 15 مايو” ثم أعلن انتهاء “الشرعية الثورية” بوضوح.. قال أنه ذاهب إلى “الشرعية الدستورية” ليكتشف الشعب أنه أخذ إلى الطريق الثالث!!
كانت “الشرعية الثورية” قد اختارت “الاشتراكية” والرهان على الشرق.. أعلن “مؤسس الجمهورية الثانية” تأكيد تمسكه بالخيارين.. وقع معاهدة صداقة مع “الاتحاد السوفيتى” وأقرها “مجلس الشعب” لاستكمال الشكل فى “الشرعية الدستورية” ثم وقع “عقد شراكة” مع الغرب خلال زيارة “نيكسون” للقاهرة.. أسقط “الشرعية الثورية” وجعل “الشرعية الدستورية” مجرد عباءة يتزين بها خلال زياراته لمسقط رأسه فى “ميت أبو الكوم” وأمام قادة وزعماء دول خلف البحر المتوسط ووراء المحيط!!
أدرك كل الذين أحاطوا به اعتقادا منهم أنه يصحح مسار “ثورة 23 يوليو” أنه أسقطهم فى شراك خداعى.. فقط راح رجال الصف الثانى فى “الجمهورية الأولى” يتساقطون واحدا بعد الآخر.. بداية من “محمود فوزى” أول رئيس وزراء خلال سنوات حكمه.. مرورا بكل من “إسماعيل صبرى عبد الله” و”فؤاد مرسى” و”مراد غالب” وآخرين من الذين أنهى أدوارهم قبل حرب أكتوبر.. ثم كانت الخطوة الثالثة التى خلصته من “سعد الشاذلى” خلال الحرب.. وبعدها تساقط “عبد القادر حاتم” و”عبد العزيز حجازى” ثم “ممدوح سالم” ومعه “سيد مرعى” رغم ارتباطه معه بعلاقة مصاهرة.. إحتفظ مؤقتا بآخر رئيس وزراء – مصطفى خليل – وراهن على “حسنى مبارك” نائبه, ومعه “صوفى أبو طالب” لقيادة البرلمان.. إعتقد أنه سيبدأ تنفيذ المرحلة الأخيرة من تصفية “الجمهورية الأولى” بتعديله الدستور, ليسمح له بسنوات حكم مفتوحة.. وقعت الدراما واستفاد “حسنى مبارك” الذى رجع خطوتين للخلف, واستعان بالدكتور “فؤاد محيى الدين” حتى رحل فجأة وقت رئاسته للوزراء..
إستدعى الدكتور “رفعت المحجوب” لتثبيت سفينة السلطة.. إغتالته واحدة من “الجماعات المفقوسة عن الإخوان” ليعتمد على جيل جديد من الباحثين عن الاستمتاع بالسلطة والنفوذ.. عاش الجميع فى “الرخاء والرفاهية” وكانا سرابا بالنسبة للشعب الذى خسر “العزة والكرامة” ليظهر شعار جديد “الأمن والاستقرار” أرادته “واشنطن” للحالة المصرية الجديدة!!
شهدت الشهور الأخيرة فى عمر “زمن السادات” ظهور وجوه جديدة, عندما أعلن قيادته للحزب “الوطنى الديمقراطى” وقد اختار له هذا الاسم بعناية.. أراد الخلط بينه وبين “الحزب الوطنى الحر” الذى رفع راياته “أحمد عرابى” حتى سقطت مصر فى براثن الاحتلال البريطانى.. وكذلك “الحزب الوطنى المصرى” الذى أسسه “مصطفى كامل” ومعه “محمد فريد”.. واستخدم هذا الخلط لخداع الذين استهدفهم بأن حزبه له عمق فى التاريخ.. بعيدا عن ثورة 23 يوليو!! وكان اسم “منصور حسن” هو الأبرز والأهم, والأكثر حيوية وفاعلية ضمن الذين أسماهم دماء جديدة وجيل أكتوبر!!
قدم “منصور حسن” زميل الدراسة “محمد عبد الحميد رضوان” وكليهما اعتقد أن “الديمقراطية” يمكن أن تكون حقيقية.. ربما لأن اللقاء الأول بين “منصور حسن” و”السادات” وكان فى استراحة المعمورة.. شرح خلاله “مؤسس الجمهورية الثانية” رؤيته للحزب الجديد وبرنامجه.. خلال الاجتماع دخل سكرتير الرئيس, وسلمه ظرفا يحمل رسالة عاجلة.. فتحها أمام حضور الاجتماع.. قال: “دى رسالة من ممدوح – يقصد ممدوح سالم –
يسأل.. هل يستمر حزب مصر أم يعلن حل نفسه؟!”.. وطرح السؤال على الحضور.. طلب من “منصور حسن” أن يقول رأيه.. فإذا به يرى أن الحزب الجديد لا يجب أن يكون بديلا عن “حزب مصر” الذى يثرى استمراره الحياة السياسية.. أضاف أن المرحلة القادمة تتطلب منافسة, وبناء قيادات تحتاج وقت.. أوضح أن “حزب مصر” سيكون محفزا للحزب الوطنى باستمراره.. لم يعلق “السادات” وأبدى ارتياحا لكلام الوافد الجديد على الساحة السياسية.. فهذا شاب – حسب تعبير الرئيس – يتمتع بجرأة وشجاعة.. فضلا عن أنه يملك رؤية يقدر على عرضها والدفاع عنها, خاصة وأنه كان نائبا بالبرلمان جاء كمستقل.. قدمه “أنور السادات” فى الاجتماع التالى على أنه على خلق ويتمتع بكفاءة.. وهو نموذج لما يتمنى أن يكون عليه شباب مصر.. قام بتزكية طلب “إبراهيم شكرى” لإطلاق حزب معارض, وشجع الرئيس على قبول الفكرة.. رفض قبول تبرع للحزب الوطنى من اتحاد العمال, إنحيازا للقانون الذى يحظر تلقى تبرعات وأعلن ذلك.. لقى إعلانه ارتياحا وقبولا من الرأى العام.. إستدعاه “السادات” للقاء فى منزل “عثمان أحمد عثمان” استمر ساعتين.. طرح خلاله “منصور حسن” رؤيته لبناء قيادات الحزب من جديد.. إزداد “السادات” اقتناعا به.. قرر تعيينه وزير دولة برئاسة الجمهورية إلى جانب حقيبة “الثقافة والإعلام” بعد ضمهما!!
أطلق “السادات” يد القيادة الجديدة – منصور حسن – التى لفتت الأنظار بسرعة.. فقد نجح فى أن يلتف حوله قطاع عريض من المثقفين الذين احترمهم وعاملهم بما يستحقونه.. إلتفت حوله القيادات الصحفية مع قطاع من الصحفيين الشباب.. راح ينفذ “عملية إعداد قيادات للمستقبل” وكان الرئيس يتابعه بدقة, وتراقبه عيون الأمن.. تحاول جماعات الانتهازية عرقلته.. بسرعة تم تنفيذ جزء من برنامج إعداد قيادات الحزب.. تم إعلان تشكيلات جديدة فى 11 محافظة, وكل محافظة تضم مائة عضو جديد معظمهم من أساتدة الجامعات والشخصيات المرموقة فى كل محافظة.. الوجوه الجديدة جذبت أنظار الشارع.. إرتفعت درجة حرارة “رجال الحرس الانتهازى” راحوا ينسجون شباكا حوله لإسقاطه.. تولى الأمر “محمود أبو وافية” قريب ونسيب الرئيس الذى يتولى تنفيذ العمليات السرية للرئيس!!
إنقلب “السادات” من الإعجاب والثقة فى “منصور حسن” إلى الغضب عليه بعد أن نشرت جريدة “الجيروزاليم بوست” الإسرائيلية مقالا تحدثت فيه عن صراع على السلطة فى مصر.. ركز المقال على “منصور حسن” ودوره فى تجديد شباب النظام من الداخل.. فوجئ “السادات” بأن مجلة “الحوادث” اللبنانية تنشر حوارا صحفيا مع “منصور حسن” وجعلت عنوانه “الرجل القادم فى مصر”!!.. ليجد الرجل نفسه وسط نيران تحيط به من كل مكان.. تغيرت طريقة معاملة “السادات” معه.. فأصبح يتعمد أن يتحدث معه بطريقة لا يقبلها أمام المحيطين به.. أخذ “منصور حسن” طريقا عكسيا فى أزمات نقابتى المحامين والصحفيين.. حاول تهدئة الأجواء التى أصبحت مشتعلة.. وجد أن انسحاب “مصطفى خليل” واعتذاره عن الاستمرار فى رئاسة الوزراء خلال العام الأخير لحكم “السادات” يمثل خسارة بالنسبة له.. تمكن “النبوى اسماعيل” من أذن الرئيس.. تم استبعاد “منصور حسن” من الاجتماعات المغلقة التى يعقدها “السادات” وتردد أنه سيخرج من الوزارة فى تعديل وزارى جديد.. كان “منصور حسن” يرفض الذهاب للحل الأمنى بقرارات سبتمبر.. عرف أن الرئيس يرشحه لأن يكون وكيلا لمجلس الشعب.. ذهب إلى الرئيس وأعلن اعتذاره عن قبول الترشيح.. هنا استراح “حسنى مبارك” تماما بعد أن أدار المرحلة الأخيرة لإبعاده عن الساحة السياسية.. فقد ذهب الذى اقترن اسمه بأن يكون النائب الجديد للرئيس.. أصابت الصدمة الناس.. نصح “إبراهيم سعدة” الرئيس أن يشرح أسباب إبعاد “منصور حسن” بهذه الطريقة الصادمة.. وافق الرئيس.. صدرت جريدة “مايو” تحمل “مانشيت” بسؤال: “لماذا خرج منصور حسن من الوزارة؟!” وجاءت الإجابة على لسان “السادات” خلال حوار صحفى أسبوعى كان يدلى به لجريدة حزبه.. وكانت المرة الأخيرة التى يسمع فيها الشعب تفسيرا لإبعاد رئيس مجلس الشعب أو رئيس وزراء أو وزير!!
أتذكر أننى التقيت “منصور حسن” بعد اختياره الابتعاد, ردا على تخفيض دوره.. كان اللقاء فى منزله بعمارة “ليبون” بالزمالك.. سمعت منه الكثير على وعد بأن يكون ما يقوله ليس للنشر.. فهمت منه أن مصر مقبلة على “عاصفة” حسب وصفه.. ردد أكثر من مرة “ربنا يستر” خلال شرحه لهدم ما قام ببنائه على مدى شهور, خلال ساعات وكان يتأسف على التنكيل بكل من اختارهم ليكونوا قيادات فى المستقبل!! وبعد هذا اللقاء بأيام قليلة.. كان 6 اكتوبر الاغتيال!! إستمر تواصلى لسنوات مع “منصور حسن” حتى فرض على نفسه عزلة شديدة.. طوال فترة حكم “حسنى مبارك”.. تذكرته بعد “ثورة 25 يناير” فكتبت مقالا فى “الأهرام” عنوانه “منصور حسن رئيسا”!!.. وأذهلنى أن عددا لا بأس به من الذين جعلوا أنفسهم “ثوارا” كانوا يسألونى عنه دون أدنى معرفة به أو بدوره.. عاد التواصل بيننا عندما طلبنى “منصور حسن” ليشكرنى, وداعبنى: “إنت لسة فاكر كل دة؟”!!.. بعدها حدث أن “المشير طنطاوى” تواصل معه ليتولى قيادة “مجلس استشارى” خلال الأيام الأخيرة لمسئولية المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد خلع “حسنى مبارك” وتردد اسمه كمرشح توافقى للرئاسة.. تولت جماعة “الإخوان” إشعال النيران حوله, وتحالف معهم كل الذين باعوا الحقيقة للفوز بأوهامهم..
إنسحب “منصور حسن” فى هدوء وشموخ كعادته غير آسف.. ولن أنسى قوله لى: “ربنا يستر.. لأننا ذاهبون إلى المجهول”ّ!!.. وداعبته بقولى: “دايما فى اللحظات الصعبة.. تقول لى ربنا يستر”.. أجابنى بهدوء شديد: “لا نملك غير الدعاء, طالما أن قتل كل من يطل برأسه مخلصا مستمر”!! ولا أبالغ إذا قلت أنه رحل, وكان يعرف تفاصيل ما حدث كما لو كان يقرأ من كتاب!!
قبل أن ينفعل “عشاق السادات” أو مريدى “الطريقة المباركية” أدعوهم لقراءة كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” لأن صفحاته تحمل الكثير, وتفاصيل تتجاوز ما قدمته وأوضحته.. ويبقى أن كل ما ائتمننى عليه “منصور حسن” أمانة لا يمكن أن أفرط فيها بأى ثمن.. لاعتقادى أنه كان واحدا من الفرص الضائعة على مصر!!
رحل “مؤسس الجمهورية الثانية” بعد أن ضرب أساس “الجمهورية الأولى” بالتخلص من أهم “رجال الدولة” وضرب الفساد فى “القطاع العام” مع إعادة “الإقطاع الجديد” عبر “رجال مال” مغامرين ترعاهم عواصم غربية.. ضرب الجامعات.. ضرب الزراعة والفلاحين.. ضرب الصناعة والعمال.. ضرب الدبلوماسية وسلمها لا تمارس غير الحد الأدنى لدورها.. ضرب السياسة فى مقتل.. ضرب الثقافة.. ضرب الإعلام.. سلم الملفات لنائبه الذى أصبح رئيسا, ومعه “شفرة الجمهورية الثانية” وحافظ على استمرارها ورعاية شجرتها.. فكر فى أن يتجاوز حدودها بفكرة “التوريث” ليخاصمه الذين تولوا رعاية هذه “الجمهورية” وأجهز عليه “رجال المال الفاسد” مع “الإخوان” وكليهما كان “طرفى المقص” حتى وقعت الواقعة فى “25 يناير 2011” لتختلط الأوراق.. حاولت “واشنطن” تسريع ما تبقى فى مشروعها تجاه مصر.. خذلها “الإخوان” الذين أظهروا “مراهقة سياسية” واضحة.. هبت عاصفة “30 يونيو 2013” لتبعثر الأوراق من جديد.. إنعقد الأمل على ما بعدها.. تمكن “رجال المال” مع “بقايا نخبة” والذين يمارسون “الانتهازية” على أنها مهنة.. توارى الشباب مع الذين لا يملكون أكثر من “ربنا يستر” وكل الذين اختاروا السهر بالأمل.. عادت “الجمهورية الثانية” بساق واحدة.. بعد أن ترنحت بساق “جماعة الإخوان” لنكتشف أننا وطن يدور داخل دائرة مغلقة.. فقد انتهت “الجمهورية الأولى” وبقيت عناوينها وما حققته تتحدى الزمن وكل الذين يطلقون عليها الرصاص.. دخلت “الجمهورية الثانية” غرفة الإنعاش فى حالة “موت سريرى” ولم يبق غير دفنها.. ثم نبحث عن “الجمهورية الثالثة” التى فرض الزمن والتجارب ملامحها.. لا تحتمل شكا أو مزيد من الأكاذيب والعبث بمقدرات وطن وشعب وتاريخ!!
حتى لا يعتقد الذين راهنوا على موت التاريخ.. موت الشعب.. موت الحقيقة.. أنهم انتصروا.. يجب أن نفكر فى المستقبل, كما سبق أن فعلت مصر يوم أن تولى مسئوليتها “محمد على”.. وكما سبق أن فعل “جمال عبد الناصر” عندما استعاد استقلال مصر من الاحتلال.. ولا عزاء للذين يرفعون “رايات نكسة 1967” لأن فرنسا وبريطانيا واليابان والمانيا وبلجيكا وبولندا.. وغيرها, دول كثيرة تعرضوا لنكسات أخطر وأكثر وضوحا.. لكنهم لم يسلموا أمرهم للذين يتعيشون على ذكريات نكسة, ويحكمون بمهارة البكاء لوقوعها مع لطم الخدود!!
إذا تجاوزنا كل هذا نستطيع بناء “الجمهورية الثالثة” وملامحها مكتوبة, ولم تجد من يقرأها أو يحاول العمل لرفع راياتها!!.