“لا أدين لك بشيء”.. ما أسهل على بعض الناس أن يلقوا بهذه القنبلة في وجه من مد يده لهم بالخير، لكي يتخلصوا من كل إحساس أمامه بالضعف أو الحاجة لرد الجميل…
السهل هو أن تستهين بالآخر وتزدري صنيعه وتهينه، لكن الصعب هو أن تُروض نفسك، وتقهر شهوة الأنانية داخلك، وتسلك مسالك الطيبين، فيرى الناس منك مثالا للوفاء والامتنان، إذ أن النفوس الكريمة لا تعرف الجحود ولا النكران، بل إنها على الدوام وفيّة معترفة لذوي الفضل بالفضل….
الله سبحانه وتعالى الملك، وهو من خلقنا ولا يحتاج منا أي شيء، يطلب منا مع ذلك – نحن البشر – إظهار الشكر والامتنان له على نعمه وعطاياه. فما بالنا بإنسان ضعيف ساعد واجتهد ولم يتردد في فعل الخير، لكن النتيجة كانت سماع جمل وعبارات من نوع “لا أدين لك بشيء”… كيف سيكون تأثير ذلك على مشاعره ونمط حياته وثقته بنفسه وبالآخرين من حوله؟ لكن من يقول هكذا عبارات لا يعبأ بكل هذا…
اللافت في الأمر هو أن لدى الكثير من البشر في واقعنا اليوم فهم خاطئ لثقافة الامتنان والشكر. لا يدركون قيمتها الحقيقية، وقدرتها على إعطاء نتائج مبهرة. بل إن هناك من يقول إن طاقة الامتنان هي أعلى طاقة في الترددات بعد طاقة الحب مباشرة…
ما أسهل أن نقول، “بل هو عن علم عندي”.. “علمي ومواهبي هي التي صنعتني وقدمتني، ولا أدين لأحد بشيء”….
ينسى من يقول هذه الكلمات أن هناك العشرات مثله، بل وربما أفضل منه، يحتاجون فقط مثل هذه الدفعة التي حصل عليها من فاعل الخير، حتى تأتي بعدها مرحلة استغلال المواهب والقدرات. لكنه يأبى الاعتراف أنه، وبدون هذه الدفعة، كان من الممكن أن يبقى في محله سنين طويلة، دون أن يتحرك شبرا واحدا للأمام.
قارون وعظه قومه بأن يظهر الامتنان والشكر لله، الذي منحه من فضله كنوز الدنيا، لكنه استكبر وأبى، وقال إنما أوتيتُ هذه الكنوز بسبب ما لدي من علم ومواهب وقدرات.
وأنزل الله فيه آية كريمة: “قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ”
وقد ورد عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ليأتين على الناس زمان عضوض، يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل”… “فإن كان عندك خير فعد به على أخيك، ولا تزده هلاكا إلى هلاكه ، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه”.
ما الذي سيحدث لفاعل الخير؟ حينما تتكرر على مسامعه عبارات من نوع: “لا أدين لك بشيء”
“إنما هي الأقدار التي ساقتك إليّ وساقتني إليك”
ربما يتسبب الحزن وفقدان الثقة بالناس في أن يقرر بعدها ألا يقدم الخير لأحد مهما كان، وألا يساعد أحدا، وألا يمنح الفرصة لأحد، وقد يؤدي ذلك في نهاية الأمر أن ينتهي الفضل والمعروف وعمل الخير بين الناس..
لا يعلم ناكر الجميل أنه بفعله يمنع خيرا كثيرا عن أناس، ربما هم في أمس الحاجة إليه.. فالحياة دوائر شديدة التشابك والتعقيد…
ولا أجد أجمل من هذه الآية الكريمة حتى أنهي بها كلماتي.. قال الملك الرحمن الرحيم: (ولا تنسوا الفضل بينكم).