أما محمد فوزى فهو لحن البهجة فى حياتى ، شخص لطيف يأتى إليك ـ وحدك ـ ليسعدك ويبهجك ـ وحدك ـ ويمضى كنسمة تنتظرها الروح كلما غابت.
وكلما عاد تأتى روائح الأحبة ،جاءنى مرة وفى يده محمد مستجاب ،كان يضحك وهو يغنى ” ليه بس يا قلبى تبص لفوق “وينظر إلى مستجاب الذى كان قد بص لفوق جداً وسقط بجسده الممتلىء فى غرام “أودرى هيبورون” فاتنة هوليوود المحندقة كقطعة سكر.
وفى ليلة لا تنسى جاء بحبيبتى “زينات علوى ” فهى وليس غيرها التى شفايفها نفحة م الجنة بلون الورد والحنة ،وكلامها ـ الشفايف يعنى ـ أحلى م المغنى ، زينات جارحة القلب بعيون كاس يدور ع الناس يسكرهم، وفيها جمال وفيها دلال يحيرهم ، زينات التى تعذبت وحدها رقصت فى تلك الليلة !، داخت مع موسيقى فوزى وراحت تحكى ما جرى فى أنشاص وما بعدها ، وكثيراً ما زرانى فوزى بصحبة يحيى خليل على نغمة ” أكابيلا ” .. كلمنى .. طمنى … وارحمنى .. يوووم يا حبيبى ” ، وكلما تجلى وسمعت صوته يسبقه على السلم بكلمات فتحى قورة :” صبرى فرغ يا جميل ..والنفس مانعانى..وما دام كتمنا الهوى.. يا كتر ما نعانى عايز أقولك بحبك، بس منعانى ..”.
أعرف أن الفنان صبرى فواز بصحبته فلا يغنيها إلا وطيف صداقتى القديمة مع الصابر الفواز يمر أمامى فقد سمعتها بصوته ذات ليلة شتوية مطلع التسعينات ، فنقضى الليلة سويا ونحكى ويطيب المزاج فنسمع ” طير بينا يا قلبى ولاتقوليش ” ونطير جميعا مع نجمنا المصرى محمد صلاح وحكاياته فى بلاد الإنجليز ، ويأتى الشاعر عبد الرحمن الأبنودى الذى كان عاشقا لليفربول ومغرما بماردونا الذى يشبه الشاعر محمود درويش بالنسبة له ، ونتخيل لو كان موجوداً وهو يشهد اللحظة ارتدى فيها صلاح تى شيرت ليفربول ، وليست كل الليالى مبهجة ، فقد سمعت من فوزى ” ياليالى الشوق فاض منى الشوق على بر الشوق رسينى ..أنا ليا نصيب وإن كان لى نصيب ..حلاقيه فى الغيب مستنينى ..رسينى رسينى” كثيراً .
لكنه فى المرة الأخيرة أخذنى مع كلمات خسين السيد إلى ثلاثة بحور هادئة لدرجة الحزن والشجن ،فإن وصلت إلى بحر محمود مرسى حدفتنى نظرة عينيه القوية الهادرة إلى بحر الست أمينة رزق التى آراها جالسة وحيدة على شاطئها الناعم الطيب فنبكى سويا حتى أسمع صوت الفتى صلاح السعدنى يضحك مهوناً من الأمر فيأخذنى معه إلى أقرب محطة من عمرى وأيامى وأرى صورة محمد فوزى تزين الحائط فنبتسم لبعضنا البعض ويمد يده ونعبر ..ورائحة البحور الثلاثة تملأ رئتى .
وخروجا من هذا الجو الكابوسى نسمع زقزقة العصافير وذهب الليل وطلع الفجر والعصفور صوصو لنجد زكى طليمات قد ساب مدرسته بالفعل! وجلس فى حديقة الحيوان يراقب سلوك الأسد وشقاوة النسناس!!، طرده جورج أبيض من فرقته وأصبح عاطلا يحمل شهادة البكالوريافتفرغ لسماع زقزقة العصافير ونهيق الحمير فجاءته الفكرة التى شقلبت مصر كلها وأسس “جمعية الحمير”.
وليست كل العصافير سعيدة فإن تأملت “صنع الله إبراهيم ستجده عصفوراً صغير الحجم ،هادىء الصوت ،خفيف الحركة بعينين زائغتين يبحث عن غصن شجرة يرتكن إليه ، سبح بحور وطلع جبال وعبر سهول وطوى رمال،ولم يسترح على شاطىء .. هو الذى أراه مع كلمات مأمون الشناوى ” ويلك .. ويلك ..ويلك يا مشتاق..من طول ليلك والأشواق .. غريب الدار ..حزين محتار يا ولداه”.
ويا سبحان الله يا أخى ، هناك أربعة عمالقة يرتبطون فى وجدانى مثل عقد من الفل واللؤلؤ أيضا ، هم أحبتى الذين أنعم علىّ الدهر وصادقتهم وتعلمت منهم وسمعت نبرات أصواتهم واحتفظت بها فى قلبى بنفس الترتيب ” خيرى شلبى ، إبراهيم أصلان ، سيد حجاب ، وكلما هلّ محمد فوزى بطلعته البّسامة ينادى الحبايب بكلمات : مرسى جميل عزيز ” أى والله .. وحشونا الحبايب وعيون الحبايب والله”حضر طيف يسحب فى يده طيف ثان وثالث حتى إذا ذهبوا بقى منهم ضوء جديد حارسا لأحلامهم هو المخرج الكبير مجدى أحمد على الذى يقضى معنا سهرة لطيفة ونسمع ” يا نور جديد فى يوم سعيد ..ده عيد ميلادك أحلى عيد ” كلمات عبد العزيز سلام، قبل أن ندخل إلى دراما الوطن الباكى ودموع أولاده النبلاء مع كلمات مرسى جميل عزيز أيضا ” بلدى أحببتك يا بلدى”، فقد نزف لويس عوض وهو يهتف بهواها ،وبكى نعمان عاشور وهو يبحث عن غد أحلى للمسرح ،وداس سيد عويس على الشوك والزجاج المكسور وسمع هتاف الصامتين حبا فى الله وللأبد ..
هؤلاء الثلاثة هم الذين أحبوا بلدهم بتلك اللوعة والشجن التى يحملها لحن محمد فوزى ، اكتوى الثلاثة بصهد مؤامرات عصر فاروق ،واتفرم الثلاثة فى عهد عبد الناصر ولم ينصفهم السادات ولم يهتم مبارك بأمرهم وظل اللحن العذب يتردد بنفس الحنين واللوعة حتى ساعة رحيل كل واحد منهم : بلدى أحببتك يا بلدى .
ونزار قبانى الذى وُلد تحت شجرة ياسمين ، هو الذى يمكن اللجوء إليه هربا من تلك الدراما ، فلم يكتب شاعر عن الياسمين والورد وعطرالجميلات كما كتب ،ومن الطبيعى والحال كذلك أن ياتى طيفه مع زهور محمد فوزى،وكلمات : صالح جودت
الورد له فى روايحه لغات
تجمع بين النار والجنة
حاكم الزهور زى الستات
لكل لون معنى ومغنى.
لكن هناك ثلاثة نساء أتعجب من وجودهن متجاورات فى ذاكرتى! ، وكلما جاء فوزى راقصا بصوته وبكلمات أبو السعود الأبيارى “فاطمة وماريكا وراشيل ..دول جوه قلبى كوكتيل”.
اصطفّ الثلاثة اللائى يستحيل اجتماعهن فى الحياة أو الآخرة حتى! ، فمن أين جاءت داليدا كى تلتقى بالسيدة صافى نازكاظم وكيف التقيا مع جسد شاكيرا ؟!،اسألوا محمد فوزى الذى يبتسم الآن وهو يرانى أغنى معه ” تعجبنى فى واحدة خفتها ..والثانية حلاوة لفتها ..والتالتة دلالها وقسوتها”.
وقبل مطلع الفجر بقليل نسمع ” ع الباب أنا ع الباب .. افتحى لى يا بواب ” فنعرفه إنه “لطفى لبيب ” جاء يحكى عن تجربته العجيبة الفريدة مع التمثيل وكيف انتظر طويلاً جدااا وهو يغنى للدنيا ” ” إن كنتى واخدة على خاطرك قوليلى اصالحك
وان كنتى مش عارفة عذرك برضه اسامحك”.
واستمرت الليالى وجاءنى فوزى ومعه “سيد الضو” آخر حارس للسيرة الهلالية ، وجاءت شيريهان بفستان من البنفسج وجاء صلاح عبد الصبور ، وجاء خالد جلال على استعراض “أبطال الغرام ” كلمات فتحى قورة ،حيث يتقص فوزى شخصية قيس وصباح هى ليلى أما والدها الحاسم فهو الفنان إسماعيل ياسين الذى يسأل :من البارد الآتى.. أقيس أرى ماذا وقوفك فى ساعة متأخرة!
ـ فوزى: خلصت من بيتنا النار.. من غيرك يحمل همى وبدال أطلب من الجار.. جيت أطلب من بيت عمى
إسماعيل ياسين: ليلى .. تعالى .
صباح: أدينى جيت.
إسماعيل ياسين: هاتى لابن عمك عود كبريت.
وجانى اللى بحبه جانى ،جاءنى فوزى أيضا بالولد الذى أحبه وصفقت له قبل أن أعرفه الفنان “أحمد مجدى” الصديق الاستثنائى الذى خطفنى حتى من أصدقائى العواجيز بتألق روحه وبحثه دائما عن الجديد فى التمثيل والموسيقى والأدب ، شجعنى على التطلع لما وراء الطبيعة وجددّ شباب كولن ويلسون فى عقلى وأعادنى إلى الفلسفة، لم يزرنى مرة إلا ومعه شىء جديد ،مرة يتعلم عزف العود، وآخرى يتعلم النفخ فى آلة هندية ضخمة ، وثالثة بمجلد الحضارة الهندية التى كان مولعا بها آنذاك، وعندما صدر ” الكتاب الأحمر” لكارل يونج وجاءنى بنسخة حصل على الغنوة التى ارتبطت به.
ومضى الكتاب على ألحان وصوت فوزى ،حتى إذا جئتٌ للكتابة عن فوزى نفسه تعطلت لغة الكلام ، فهو يحتاج لغة ناعمة ، يحتاج رقة وحلاوة تناسب خفة الروح وجمال الطلعة ، والحروف السوداء التى تقرأها الآن مجرد محاولة فاشلة للتعبير عن حبى له ،فهو أحلى من الكتابة بأى لغة ،وأراهنك أن ابتسامة خفيفة ترتسم على ملامحك كلما مرّ طيف من فوزى واقفا فى حديقة ليلى مراد بعكاز يتسول منها الغرام ، فهذا الولد فيض من نور الله ، لا تعلم إن كانت بركة سيدى الدسوقى فى جيب بنطلونه أم أن نفحة الرضا من السيد البدوى تطل من جبهته ،فهو حاضر بروح وثابة منطلقة من حنجرته وملامحه وابتسامته وحتى من قامته المحندقة الشيك التى جعلته خالداً فى وجدان طفولتنا منذ أن ذهب الليل وطلع الفجر.. كان يغنى ويحكى عن أحلامه فى السينما وكيف ظل يبحث عن ضحكة طفل تكون موسيقى غنوته الأشهر ، ضحك وبكى ونام .. ومضى وتركنى وسط كل هؤلاء الأحبة على أن وعد بأ ن يعود بأحبة جدد فى ليال قادمة إن طال الأجل . …