منوعات

محمد عطية يكتب : مقهى التكعيبة!!

استوقفها المشهد. في سنواتها الخمس وثلاثين التي عاشتها تمر من نفس الزقاق، لم تر أمرا كهذا. كلب ممدد في ارتياح وهو يلتهم في سعادة قطة لا يتجاوز عمرها شهرا واحدا.

شعرت باستياء، تذمر، غضب، ليس من المفترس الجاثم يعضعض وجبته وإنما من الدوافع التي ساقته إلى ذلك.

كثيرا ما كان هذا الكلب أحد المحتشدين هو وزملاؤه فوق رقعة القمامة القريبة. ها هي هناك، أبعد بعدة أمتار عن مسرح الجريمة. الرقعة خاوية. قمامة بلا أي بقايا طعام زائد عن حاجة البشر أو أصابه التعفن قبل أن يلقى كطعام لذوي الأربع والقوارض. فهمت على الفور. عاني الكلب مجاعة من نوع خاص.

أجبرته قلة الحيلة وضغط الجوع على انتهاك المعتاد اليومي كأسلوب لإيجاد الغذاء. في أول فرصة ذهبية سانحة اختطف أو استعار واحدة من قطيطات كانت تلعبن في ركن ما. هل يلام؟ أكان بمقدرته أن ينحو منحى آخر؟.

لم تتجاوز المشهد المثير لغثيان ودهشة. استعادته بكل تفاصيله -والنساء ذاكرة رقمية لا تنسى أدق الملامح- خلال وقوفها في الشارع الخديوي الواسع. تنظر إلى الحمائم التي تعتلي إفريز دار القضاء العالي تحت شمس ديسمبر الحانية.

ساعية لتناسي واقعة الذبح المقيتة دست سماعتين بيضاوين في أذنيها المحلاة بقرطين أخضرين على هيئة هلال ونجمة. انسكب داخلها صوت أصالة تشجعها على مقاومة كل أشباح الصمت:
عادي هنسى وابدأ تاني
مش هاكون في مكاني
ناوية اكون قدام
لازم ابقى مره جرئية
وانسى إني بريئة
هسبق الايام

رطبت شفتيها الفارغتين من أحمر الشفاه مع جائحة الفرح المتزايدة في جوانحها بفضل النغمة والصوت الحماسي. هبت نسمة هواء شديدة قادمة من الميدان مرورا بشارع شامبليون. ارتفعت أرصدة معنوياتها أكثر.

هي مثل الكائن الصغير الذي صار عشاء للكلب الهادئ المتلذذ. الفارق الوحيد أنها امتلكت وعلى مهل وعلى مدار عقد ونصف مخالب تزيح بها من يحاول خنقها وابتلاعها بل وإفقاده عين أو عينين إذا حاول الانقضاض.

طالعت مجددا أظافر كفها المضموم كقبضة. يخلو من الطلاء القرمزي الذي أحبته دائما وعدته جزءا من هويتها. “هذه مخالبي لمن أحب الاقتراب. لمن طمح في الإيذاء”. تخلت عن لعب دور العنزة الوديعة بعد تتال الركلات والصفعات اللائي توالت على روحها في سنوات دكناء كالقبور.

صارت أشرس وأعقل وأكثر صلادة من الحديد الزهر. تجاوبت مجددا مع المطربة السورية المختبأة بقائمة التشغيل في هاتفها:
كل الايام الصعبة اللي انا عشتها هنساها
والناس اللي بتجرحني خلاص انا مش فاكراها
عمري ما هستسلم وارضى بحاجة انا مش عايزاها

على مقهى التكعيبة الذي علمت الشارع الكائن به بمحل كواء وأخر لقطع غيار السيارات اليابانية حطت رحالها. استلت لفافة تبغ من علبتها -ماركة وينستون أزرق-، أوقدتها هازئة “من قال إن السيدات لا تشرب إلا سجائر (سليمز) أو (كاريليا) الرفيعة ليس إلا دجالا كاذبا مدع- نادت: واحد يانسون لو سمحت. قارنت بين الجمرة المتلظية في رأس إصبع التبغ والنيكوتين الأبيض الذي يحتضر مع كل سحبة لصدرها وبين طعم السائل الأصفر المهدئ ” أنا نيران لا يطفئها الماء أو الزمان مثلك يا صغيرتي” برقت عيناها وهي تلامس السمكتين الذهبيتين المدلاتين في سنسلة تحت كنزتها الصوفية دلالة على كونها أحد مواليد برج الحوت. كثر اللصوص في الطرقات ومن بينهم راكبو الدرجات البخارية. هناك في قلب القماش الخشن لن ينجح أحدهم في انتشالها من “عبها”.

استلت هذه المرة كتابا لا لفافة جديدة، “أيام تشاوشيسكو الأخيرة” عن الديكتاتور الروماني الذي انتهت حياته بطلقة رصاص على يد جنوده. قرأت في تلذذ. ربما أكثر تلذذا من مفترس القطة. من فرط التمتع نفحت مقاطعيها من باعة المناديل والشيكولاته نصف ما حملت هذا اليوم من نقود. حتى تاجرة الفطير التي تتخذ مستقرا لها قرب البنك المركزي، منحتها ابتسامة وورقة مالية فاقت ما تمنته السيدة المقرفصة فوق طوبة مترعة بالقسوة تؤلمها كل حين.

عند التمثال الأبدي لعمر مكرم تمهلت. الرجل الحجري الذي يرفع سبابته اليمنى مدليا ببيان ما لأجيال ولدت وستولد. إلى اليمين قليلا خطت كي تحصل على أفضل وضع للتصوير. مكرم ومن ورائه المجمع المضاء ومن أمامه التمثال معتم وكامن في روعة كأنه الزعيم رقم صفر في سلسلة الشياطين ال13. ضغطت فوق دائرة الكاميرا بهاتفها وخالت أن أطيافا أو أرواحا من أزمنة ماضية تزاحمت من حول عمر كي تخلدها الصورة.

يتشكك كل من يرى أرشيفها “لا شئ إلا التمثال يا سمية” لكنها وفي إصرار قد من صلابة المقطم ومتون كتاب الموتي الهرمي وتشبيكات مشربيات بيت السحيمي وسلاسة مياه النيل السائر عكس كل أنهار العالم تؤكد أنهم إحدى مكونات اللقطة. يغفل عن رؤيتهم العميان ولو كانوا مبصرين.

في درب العودة لبيتها القديم بالسيدة زينب تحلم ألا تبصر حادث قتل جديد. تأمل أن يتعامى الكلب النهم عن الصغيرات اللاعبات في الزوايا ومناور العمائر. أن تمتلئ القمامة بما يغنيه عن إزهاق ضحية ثانية وثالثة وعاشرة. تحاول نسيان اللحيظة المرة مرارا علقميا.

تلجأ للمرة البليونية إلى معشوقتها من بلاد الشام، فتجيب تلك من مرقدها بخزانة الفون صائحة:
مش صعب اخلي اللي انا بتمناه يبقى حقيقة
وانا لازم اكون واثقة في احساسي في كل دقيقة
وهايجي اليوم وهحقق حلمي بأي طريقة
تشتري أحمر للشفاه …وتتذوق بطرف لسانها الدهان اللامع بنكهة الكريز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى