منوعات

نصر القفاص يكتب : الشعب ينادى “يا عدوى”!!

كنت أسمع الحمالين فى أسواق مدينتى “دسوق” يقولون: “يا عدوى” عند رفع ما يصعب حمله.. إعتقدت وقتها أنهم يقلدون “فريد شوقى” عندما كان يردد النداء نفسه.. فى عدد من أفلامه.. ظنى أننا جميعا نذكر فيلم “30 يوم فى السجن” وفيه كرر النداء أكثر من مرة!!

حكاية “العدوى” عرفتها من خلال قراءة كتاب “مصر نافذة التاريخ” بقلم “جمال بدوى” الرشيق!! وأدهشنى أن “العدوى” كان أحد شيوخ الأزهر, الذين حفروا إسمهم على جدار الذاكرة الوطنية.. فقد كان شجاعا.. يرفض الخنوع.. قادر على المواجهة بعلمه.. يحترم الأصول.. لا تقبل نفسه الذل.. عاش رافعا رأسه.. لم ينحن فى لحظة الانكسار.. لحظة احتلال الانجليز لمصر!!

وقت حكم “الخديوى إسماعيل” زار السلطان العثمانى – عبد العزيز – مصر.. ضمن برنامجه كان مطلوبا أن يحضر للسلام عليه عدد من شيوخ الأزهر.. إختار “الخديوى” أربعة من كبارهم.. وطلب من قاضى القضاة التركى أن يعلمهم أدب الوقوف بين يدى “خاقان البرين وملك البحرين وخادم الحرمين الشريفين” كما كانت بطانته تطلق عليه.. تكفل كبير القضاة بالمهمة.. طلب منهم أن يدخلوا من الباب فى وضع “الركوع” ويتقدمون بضع خطوات نحو المنصة التى يقف عليها السلطان.

بينما “الخديوى” يقف خلفه.. يلقون التحية.. يتراجعون للخلف دون استدارة مع استمرار الوضع “راكعا” حتى يعودوا إلى الباب.. تقرر أن يدخلوا واحد بعد الآخر.. نفذ ثلاثة منهم الأوامر حرفيا.. دخل الرابع فانحنى انحناءة تقدير برأسه, ثم رفعها وتقدم نحو السلطان.. تجاوز الحاجز الذى طلبوا منه عدم تجاوزه.. وقال: “السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله”.. ثم انطلق مخاطبا “السلطان” ليذكره بواجبه نحو رعاياه.. أكد له أن ثوابه عند الله سيكون كبيرا لو فعل.. وعقابه أمام الله سيكون قاسيا قدر تقصيره فى تأدية الأمانة!

كان “الشيخ العدوى” هو بطل هذه الواقعة.. عرفها الشعب فجعلوه رمزا للقوة والشموخ!!
إصفر وجه “الخديوى” وراح يلعن من اختار هذا الشيخ.. تنفس الصعداء حين بدت على وجه “السلطان” علامات الارتياح.. لكنه حاول تدارك الموقف, بقوله: “إنه من المجاذيب يا مولاى” وسأعاقبه على فعلته.. لكن “السلطان” رده قائلا: “لم ينشرح صدرى لمقابلة أحد هنا, كما حدث خلال استقبالى لهذا الشيخ”.. وأمر الخديوى بصرف ألف جنيه مع مكافأة أخرى له!!

إحترم “السلطان” فى “الشيخ العدوى” تقديره لعلمه ونفسه.. كما بقى الشعب يذكر له أنه انضم إلى جيش “أحمد عرابى” مقاتلا الانجليز حين جاءوا لاحتلال مصر, وحماية “توفيق” ابن “إسماعيل” الذى أذل أبوه بعد عزله.. فطرده إلى “إيطاليا” على ظهر الباخرة “المحروسة”.. كما حدث مع حفيده “فاروق” يوم 26 يوليو 1952.. عندما انتزعت مصر “العزة والكرامة”!!

لا ينسى “الشعب المصرى الشقيق” الذين يقدرون على قول الحق.. وإن صمتوا خوفا من البطش.. لأن هذا الشعب ذاق مرارة الاستعباد.. دفع ثمن الاستبداد فادحا, لمئات السنين حتى تحرر عندما جاء جيل كان على “موعده مع القدر” كما قال قائد وزعيم الثورة “جمال عبد الناصر” الذى قهر أعداءه حيا وميتا بحب وتقدير شعبه.. فقد وجد فيه الشعب الصدق والأمانة ونظافة اليد, قولا وفعلا.. حتى قالت عنه “المخابرات المركزية الأمريكية” التى كانت تحاربه – ومازالت تحاربه – أنه كان رجلا بلا رذيلة!!.. وفى ذلك سر تمسك الشعب به مهزوما, والبكاء بمرارة عليه منذ رحيله حتى اليوم!!

دفع “الشيخ العدوى” ثمن احترامه لوطنه وعلمه ونفسه سجنا.. لكن “عبد الرحمن الكواكبى” الذى قاوم الاستبداد العثمانى فى “زمن السلطان عبد الحميد”.. دفع عمره حين قتله السلطان مسموما فى مصر..

لمجرد أنه كتب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”.. وترك لنا “محمود عوض” سيرته فى كتابه الرائع “أفكار ضد الرصاص”.. كما قدم فى الكتاب نفسه سيرة “طه حسين” والثمن الذى دفعه لكتابه “فى الشعر الجاهلى”.. وكذلك الشيخ “على عبد الرازق” الذى دفع ثمن كتابه “الإسلام وأصول الحكم” ومعهم “قاسم أمين” صاحب كتاب “تحرير المرأة”.. كلهم نهش لحمهم “المنافقون” فى زمنهم!

الحاكم “المستبد” يرى فى “النفاق” مشروب السعادة.. يعتبره عصير “أناناس” لذيذ.. و”المنافق” يقدم نفسه للسلطة على أنه “أنا الناس”.. لينال الثروة والوجاهة والنفوذ.. هؤلاء يعيشون كما “فقاعة” ويذهبون كما تنتهى!!.. ويتركون للحكام الذين تعاطوا “النفاق” لعنات التاريخ.. ولا ينساهم الذين ذاقوا مرارة بطشهم..

المذهل أن هؤلاء إذا انكشف أمرهم, يثيرون الشفقة ويفجرون الضحكات.. وحدثنا “الجبرتى” عن أحدهم وأطلق عليه “كداب الزفة” حين كتب سيرة “مراد بك” أحد حكام مصر من المماليك وقت الحملة الفرنسية.. فقال عنه: “كان هذا الأمير متسلطا.. مغرورا إلى حد البلاهة.. همباكا إلى درجة العبط.. جعجاعا فى تقدير بطولته وقدرته على سحق الآلاف بضربة سيف واحدة.. وإذا حانت ساعة الجد, لا يكف عن الجرى حتى يطمئن أنه مازال حيا.. وأطلق عليه المصريون كداب الزفة, لأنه حين خرج لمواجهة نابليون وجيشه.. قال لهم أن الفرنسيين مثل حبات الفستق.. لا يصلحون لغير الأكل أو الكسر”!!

عاش “عبد الرحمن الكواكبى” بعد رحيله بما تركه لنا واصفا “الديكتاتور” فقال: “يستطيع أن يخدع.. يكذب.. يعاقب.. يسجن.. يعذب.. يشرد.. لكنه لا يستطيع أن يضيف يوما إلى عمر استبداده”!!

وعاش “جمال الدين الأفغانى” بما تركه من سيرة.. فالتاريخ يذكر له أنه التقى بالسلطان “عبد الحميد” فى “الأستانة” وخلال حديثه معه كان يلعب بحبات مسبحته.. بعد انتهاء اللقاء والحوار, قال له رئيس الديوان السلطانى: “لا يليق أن تلعب بحبات مسبحتك فى حضور السلطان, لأن هذا معناه عدم احترام لجلالته وهيبته”!! فإذا بالكلمات تندفع من “الأفغانى” قائلا: “سبحان الله.. السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة, دون أن يعترض أحد خوفا ورعبا.. ثم تحاسبون جمال الدين على أنه يلعب بمسبحته”!!

قيمة التاريخ تكمن فى أنه لا ينسى.. خطورته أنه يسجل لكى يتعلم منه كل من يقرأ.. وضمن ما نعلمه وذكره التاريخ.. أن “الشعب المصرى الشقيق” كان يسخر من “يحيى باشا ابراهيم”.. أحد رؤساء الوزارات فى “زمن الملك فؤاد” فيقول عنه: “يحيى باشا رجل شالوه اتشال.. وحطوه فانحط”!! وشاع هذا القول حين وضعه الملك على رأس حزب “الاتحاد” الذى شكله لكى يسحب البساط من تحت أقدام “سعد زغلول” ورجال “الوفد”.. ففوجىء أن ما اعتقد أنه “مستقبل وطن” مجرد خيبة ثقيلة.. جعلته يقدم على حل البرلمان بعد ساعات من انعقاده!!.. والمدهش أن الملك كرر الخيبة حين قام بتشكيل حزب “الشعب” برئاسة “إسماعيل صدقى” ليلقى المصير نفسه.. لمجرد أن مصر كانت تملك هامشا من حرية الصحافة, حرص عليه “المندوب السامى البريطانى” حتى لا يقال أن الانجليز صادروا الحريات فى بلد يحتلونه!!

يحمل التاريخ وصفحاته برهانا ودليلا!!

كان “إبراهيم باشا فؤاد” وزيرا للحقانية – العدل – دخل عليه سكرتيره يطلب منه توقيع قرارات وزارية يتعجلها “مصطفى باشا فهمى” رئيس الوزراء.. لمدة 13 سنة.. وهو بالمناسبة والد “صفية زغلول” قرينة الزعيم “سعد زغلول”.. نظر الوزير إلى سكرتيره, وسأله: “هل وقع المستشار الانجليزى هذه القرارات؟”!.. أجابه السكرتير: “نعم يا معالى الوزير”.. فأشار الوزير إلى “الختم” على المكتب وقال له: “الوزير عندك على المكتب.. إختم به”!!.. لأن اللورد “كرومر” هندس النظام بهذه الطريقة.. فالوزير مجرد “ختم” وكذلك رئيس الوزراء.

ولما ذهب إلى تشكيل الجمعية التشريعية – البرلمان – قبل الحرب العالمية الأولى.. أراد من أعضائه أن يبصموا على عقد جديد يسمح بمد امتياز قناة السويس أربعين عاما أخرى لينتهى عام 2008 بدلا من 1968..

وكان يرأس هذا البرلمان “حسين كامل” الذى أصبح سلطانا فيما بعد.. وافقت الوزارة التى كان قد تولاها “بطرس غالى” ووافقت الأغلبية.. وقبل الجلسة الرسمية.. كان شابا اسمه “إبراهيم الوردانى” قد أطلق الرصاص على رئيس الوزراء وقتله.. لأن الشعب كان يغلى رافضا, ولم يملك من أمره شيئا!!

المؤسف الآن أن “ولاد أمريكا” باعوا ضمائرهم.. هان عليهم الوطن.. أغرتهم الثروة والوجاهة, فراحوا يشاركون فى جريمة “تزوير التاريخ” ويمارسون القرف بالبصق علينا.. يعتقدون أنهم يقولون كلاما.. بينما انصرف الناس عنهم, بعد أن أصبحوا يختالون عليهم جهلا.. هم يعلمون أوصافهم التى أطلقها عليهم الشعب.. وذاعت عبر “مواقع التواصل الاجتماعى”.. فلو قلت “قزم الإعلام” ستجده مشهورا.. ولو ذكرت “محجوب عبد الدايم” ستنشر صورة قرينه فى الإعلام.. ولو ألمحت إلى شخصية الفنان “توفيق الدقن” فى فيلم “إبن حميدو” لن تحتاج إلى وقت لتعرفه.

إضافة إلى الذى عينته “القوى العاملة” فى وظيفة “مفكر بحمالات”.. أو هذا الذى ينافس صوت مخلوق معروف بأنه أنكر الأصوات, هابطا على الإعلام من باب “الجمارك”.. دون تجاهل لهذا الذى لا يكف عن الصراخ و”الجعجعة”.. بعد أن يغرف من “شوال الرز” ما شاء!!.. وتعرفون باقى القافلة التى يعتقدون أنها تسير.. والشعب يعوى.. بينما الشعب ينادى: “يا عدوى”.. وينتظر!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى