إذا أحب السيد نذير خاطر وصف حياته كلها في عبارة جازمة ستكون “الخوف من كل شئ” .. أصدق هذا، فقد كان الانفعال الوحيد له وأنا أقابله للمرة الأولى على مقهى “زهرة البستان” هو ارتعاش عروق رقبته وأخاديد جبهته واهتزاز أذنه أثناء حديثي عن أقدم خربشة يتعرض لها إنسان من قبل قط ويذكرها رغم مرور السنوات والعمر..
ظننت أن الرجل يعاني من الأيلوروفوبيا أو رهاب القطط، لكنني غيرت رأيي تماما حينما عثرت في شخصيته -خلال لقاءات متعاقبة بنفس المقهى- على أنواع شتى من المخاوف. يخشى نذير المرتفعات.
الأماكن الضيقة.. الأكواب المشروخة .. المقصات المفتوحة والمغلقة ..الشباشب المقلوبة وأنصاف الأحذية والجوارب الضائعة أزواجها الثانية..نبات الكرفس..يرتعش حين سماع صياح الديكة وأجراس الأبواب ونحنحة أو تمخط حارس العقار ببيته حين يتوضأ استعدادا لصلاة الفجر .قائمة تابوهاته طويلة.
عجبت لبقاء قلبه ينبض طوال ثمانية وخمسين عاما هي عمره، رغم كل سهام وسيوف وسكاكين الذعر التي أشبع بها روحه. قبل ان يتزوج كان يخشى أن تلهيه العائلة وهمومها اليومية عن قراءاته وأسفاره. بعد أن تزوج مرتين سار يخاف شبح الطلاق المتكرر..نقطة ضوء واحدة وجدتها في مسيرته التي أظلمتها خرافاته ونوازعه: كان “يضحك”، نعم كان يضحك حين يشبه نفسه بالحكاية العتيقة لشخص جلبه الملك كي يحل محله ليوم واحد؛ يأكل ويشرب ويرقص ويحكم شريطة أن يُعلق فوق رأسه سيف مربوط بحبل يتمزق بفعل شمعة..
ذات لحظة وهذا البائس يلهو في دور الملك سيُغرَس السيف برأسه أو قفاه. صرح لي: “هكذا أنا يا أستاذ عبد الرحمن.. لا تنفعني متع أو ثروات. لو وضعت بيدي أموال قارون وخزائن كسرى ونفوذ وصلاحيات قيصر لن أهنأ لثانية”، يقهقه ليتوقف خائفا من حشرجة صدرية قد تباغته لفرط القهقهة فيختنق.
أحاول إثنائه بلا جدوى: “الحياة ياخاطر رعب.. هذا مؤكد..لكن مواطنا ألمانيا ذي شارب كثيف مهجور واسمه نيتشه قال إن ألذ عيش هو أن تعيش في خطر”.. آمنت وكنت واثقا للغاية أن نذير سينسى نصائحي وسينسى شارب نيتشه سيرا على عادة “اللي فيه داء مبيبطلوش” وأن جمجمته ستهتز من أعلى إلى أسفل مرتين ليبدو مصادقا -ظاهريا- على كلماتي، لكنه -وفي التطبيق اليومي- سيمارس هوايته في تحويل الكون إلى بيت للرعب والهلع، كالذي تحويه مدن الملاهي.
غاب نذير خاطر لسنوات، لأعثر عليه بالأمس مجاورا لي في ميكروباص منطلق إلى حدائق القبة .. هادئا هذه المرة على غير عادته . مستكينا للأقدار. بلا اختلاجات أو ارتجافات عضلية . حاولت أن “اشتغله” عبر ترديد مسببات مخاوفه القديمة، حدتثه عن شراسة القطط السيامية والبلدي والرومية بل والشيرازي وفظاعة ضيق المصاعد وجنون الذين يقصون أظافرهم بالمقص فيجرحون جلودهم دون انتباه. لعبت دور الطبيب النازي الذي يعذب أسيرا بولنديا، والرجل متجمد كراهب بوذي يطالع نهاية العالم بعين مغمضة غير مبالية وفم يشفط حسوة شاي في تلذذ.
قبل أن يغادر العربة داهمني وكاشفني بأسباب تغيره: “نسيت يا استاذ عبد الرحمن أن تحكي عن فوبيا المرتفعات.. هذا الخوف قاتله الله دفعني ذات مساء إلى ابتلاع شريط منوم كامل. كان تبرمي واشمئزازي مما أنا فيه قد بلغ الحلقوم وأردت الموت حلا نهائيا وفعالا لجبني الأبدي.. في الكوابيس التي انتابتني قبل تسليم الروح لبارئها شاهدت نفسي أقفز من برج القاهرة ممسكا مقصا ضخما أفتحه وأغلقه.
ارتدي فردة حذاء واحدة وأعض قطا معلقا بين أسناني. أقرقش كوبين مشروخين وأمضغ حزمتي كرفس..أسمع صوت البواب يضرب أجراس كل شقق العمائر ويفر كطفل يهوى المقالب.
اختصارا جربت كل المحاذير وتحققت أسوأ كوابيسي وخشيت هذه المرة أن تنتهي حياتي دون عيشها مجددا بلا قلق.. حين وصلت للأرض لم يتحطم جسدي. على العكس أتى خفير مسن يتدثر بمعطف صوفي أسود ومن بطاقة الهوية التي أخرجها من تحت طاقية غبراء عرفت إنه الخوف..
أخبرني مبتسما أنني ابتلعت حبات “برادورال” للاستحلاب وعلي أن استيقظ كي أذوق الوجود بعين أخرى مطمئنة. وقد كان. رميت الشريط الفارغ من أقرب نافذة. جلست فوق مقعد المرحاض المغلق. هتفت في شعور بالزهو والنصر: “ملعون أبو الدنيا” .. أطفأت الشمعة قبل أن يهبط السيف الحاد. أخذت السيف من الملك ورقصت به”.
سمعت ما سمعت من قصة المنام العجيب كما أوردها صاحبها نذير خاطر واختلطت لدي الأفكار والتوهمات..هل جن؟ هل استعاد سكينته وشفي من آلامه؟ هل كان يرد الاشتغالة بالاشتغالة؟ …يعلم الله وحده. المرجح بل اليقيني أنه صار…. يخيفني.