•الفصائل ليست معارضة وإنما مليشيات إرهابية دموية أنتجتها وحشية النظام.. “الطغاة يجلبون الغزاة”
• ما حدث اليوم ليس نهاية الأزمة وإنما بداية الخراب.. وأقله تقسيم سوريا
بعد سنوات من الجمود انطلقت الفصائل المسلحة من معقلها في إدلب شمال غرب سوريا، وخلال أسبوع واحد فقط، سيطرت على مدن رئيسية كبرى، منها إدلب وحماة وحمص والسويداء وما هي إلا ساعات حتى استولت على دمشق، في ظل تراجع القوات الحكومية بسرعة، وهروب بشار لا مؤاخذة الأسد، واستولت الفصائل على مساحات كبيرة من الأراضي تمتد على أجزاء من 4 محافظات في شمال غرب وغرب سوريا، وانتفضت عناصرها في مناطق كان يعتقد أن المعارضة انتهت فيها منذ فترة طويلة.
في البداية اجتاح المسلحون حلب وبعدها انهارت الدفاعات الحكومية في أنحاء البلاد بسرعة مذهلة، وانسحبت وحدات من الجيش من مناطق عدة، وهرب آلاف الجنود إلى العراق عبر معبر القائم الحدودي، وبعد ساعات أعلنت الفصائل هروب الأسد، مثل سابقيه التونسي بن علي واليمني صالح، فلماذا انتهى الأسد بهذه السهولة؟ وماذا كان يفعل طوال تلك السنوات التي لم يكن فيها نشاط لهذه المليشيات المسلحة؟
اعتمد الأسد لفترة طويلة على حلفاء للسيطرة على هذه الفصائل، إذ شنت الطائرات الروسية آلاف الغارات الجوية على معاقل “داعش” وغيره من التنظيمات الدموية، وأرسلت إيران مقاتلين من “حزب الله”، وفصائل عراقية منها “الحشد الشعبي”، لمواجهة المعارضة، ودعم الجيش، أو للدقة دعم الأسد.
لكن في العامين الماضيين انشغلت روسيا في مستنقع أوكرانيا، وتلقت إيران عشرات الضربات القاتلة أبرزها اغتيال إسماعيل هنية على أرضها وفي أكثر المناطق تأميناً وهو دار الضيافة الرئاسي، وقتل الكيان الصهيوني العشرات من أذرعها في المنطقة على رأسهم حسن نصر الله، ويحيى السنوار، ومحمد الضيف، وغيرهم، فانكشف ظهر الأسد بفقدانه أبرز مناصريه.
سقط الأسد إذن لسببين، الأول هو أنه كان قاسياً ومستبداً ودموياً (ككل حكام حزب البعث) مع شعبه، واستخدم البراميل المتفجرة في إبادة شعبه في المناطق التي يحتمل أن تكون بها معارضة، تماماً كما استخدم صدام حسين (الأب الروحي للوحشية والدموية وابن النظام البعثي أيضاً) الأسلحة الكيماوية في إبادة معارضيه في حلابجة على سبيل المثال، ولم يظهر الأسد (اسم على غير مسمى) أي مرونة في محاولة توفير حياة أفضل أو مستقبل أفضل للشعب، وأضاع كل الفرص التي لم تتح من قبل لأحد مثله، فأغلب الدول العربية ومنها مصر صوتت في مجلس الأمن عام 2017 ضد قرار يحمل الأسد مسؤولية عن الهجوم الكيميائي في خان شيخون، ما يمهد للتدخل الدولي وبالتالي الإطاحة به.
ولم يستغل الإجماع العربي على إعادته لمقعده في جامعة الدول العربية، وكانت فرصة ذهبية لإصلاح الداخل بعد أن استقر له الخارج عربياً وإقليمياً ودولياً، كما تجاهل عشرات الدعوات من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالجلوس لإجراء مباحثات بشأن أعضاء حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية، وعندما طفح الكيل بإردوغان، كان أول من طعنه في الظهر وشن هجمات على سوريا بمجرد تحرك الفصائل، وكان أول من أعلن انتهاء حكم الأسد حتى قبل أن تتحرك الفصائل باتجاه دمشق.
السبب الثاني لسقوط طبيب الأسنان، هو أنه راهن على داعميه إيران وروسيا و”حزب الله” والذين ضعفوا جميعهم وتشتت انتباههم وغرق كل منهم في كوارثه، واستقوى بهم في مواجهة الشعب الذي هو في النهاية سيد أي وطن وصاحبه، تجاهل عشرات الملايين من الشعب الذين تشتتوا في مصر وتركيا والإمارات وغرقوا في مياه المتوسط، واعتمد فقط على طائفته من العلويين الذين هربوا مع أول رصاصة أطلقتها الفصائل، وضحى بالشعب كله من أجلهم رغم أنهم لا يمثلون سوى 16% من الشعب (الباقي 69% مسلمين سنة و2% مسلمين شيعة وإسماعيلية و10% مسيحيين و3% دروز) وقد رد الجميع على تجاهلهم وإبادتهم بأن رقصوا وكبروا وهللوا للفصائل بمجرد دخولها مدنهم على التوالي وبمجرد إعلان سقوطه.
لكن سقوط بشار ليس نهاية الأزمة كما يهلل كثيرون، وإنما بداية لكارثة أسوأ، فالفصائل التي أسقطت بشار ليست معارضة كما يصفها البعض نفاقاً، وإنما هي مليشيات إرهابية مسلحة، فهيئة تحرير الشام هي في الأصل فرع تنظيم القاعدة في سوريا، ثم تحولت لفرع “داعش” وبعدها تحولت إلى “جبهة النصرة” ثم هيئة تحرير الشام، وقائدها أو زعيمها أبو محمد الجولاني ليس معارضاً لنظام ديكتاتوري دموي، لأنه هو نفسه دموي وإرهابي ومسجل على قوائم الإرهاب في أغلب الدول، ومرصود مكافأة من أميركا 10 ملايين دولار ثمناً لرأسه، رغم محاولاته طوال الأسبوع الماضي تصدير صورة مدنية عن نفسه وتقديم نفسه في مظهر أكثر اعتدالاً، وندمه على الدماء التي سفكها في العراق وسوريا، وعودته لاستخدام اسمه الحقيقي (أحمد الشرع) وانتقاله من خطاب إسلامي متطرف إلى لهجة حداثية معتدلة، وإجرائه مقابلتين مع “CNN” و”نيويورك تايمز” الأميركيتين (أميركا الكافرة بالنسبة له)، وتخليه عن العمامة ليرتدي زياً عسكرياً ثم مدنياً، ورسائل الطمأنة التي أرسلها إلى العلويين والمسيحيين والشيعة والدروز، وتجاوبه الظاهري الدعائي مع رسالة رئيس الحكومة محمد غازي الجلالي التي أعلن فيها استعداده تسليم ملفات إدارة الدولة إلى السلطة الجديدة، لأن كل هذه الوعود سوف تتلاشى مع أول صراع على الحكم.
هذا ما يفعله الطغاة.. إنهم يجلبون الغزاة، كما تقول الحكمة الشهيرة، فصدام أدخل الجيش الأميركي إلى بلاد الرافدين، والقذافي جلب حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى ليبيا، وصالح ترك وراءه الحوثيين، والبشير ابتلى السودان بمليشيات الدعم السريع، والأسد استورد روسيا وإيران وحزب الله والتحالف الدولي لمحاربة “داعش” إلى جانب المليشيات المسلحة الداخلية.
وكانت النتيجة تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب (بني غازي وطرابلس)، وتقسيم اليمن إلى شمال وجنوب (صنعاء وعدن)، وتشتت العراق إلى فصائل وطوائف، وتفرق السودان إلى الخرطوم وبورتسودان.
أما في سوريا التي أنهكتها حرب طويلة بدأت بانتفاضة شعبية في درعا عام 2011، فلا يزال خطر الحرب الأهلية قائماً، في ظل توزع أراضي الدولة فعلياً بين أكثر من سلطة، وتواجد قوات أميركية في دير الزور، وقوات روسية في اللاذقية وطرطوس وهما منطقتين خارج سيطرة الفصائل، أما الخطر الأكبر فهو تقسيم سوريا إلى منطقة شامية وأخرى حلبية وثالثة درزية ورابعة شيعية وخامسة مارونية وهكذا.
جانب آخر من الخطر هو التربص التركي من الشمال ودخولها الأراضي السورية بزعم مطاردة الأكراد، والتقدم الإسرائيلي من الجنوب، إذ كعادة الخنازير الصهاينة في استغلال الفرص، استولت تل أبيب اليوم على 13 كيلومتراً جديدة، وشن الجيش الصهيوني غارات على مواقع في العاصمة دمشق قال إنها تضم مختبرات لتصنيع الأسلحة الكيماوية (نفس سيناريو العراق) دون أن يشعر أحد في ظل انشغال الجميع بالرقص والأذان والتهليل والتكبير على سقوط بشار، تماماً كما رقص كل الجهلاء في مصر على سقوط مبارك، قبل أن يستفيقوا على مئات الكوارث من مليشيات الإخوان وغيرهم.
أميركا أيضاً لن تقف صامتة، فالإدارة الحالية أعادت انتشار قواتها بزعم العمل على منع عودة ظهور “داعش”، وحماية الأقليات الدينية والعرقية في سوريا (لاحظ كل ما حدث من قبل من مصائب تحت هذا الشعار)، وضمان أمن إسرائيل والأردن والعراق، وهو ما يمكن أن ينفذه بايدن بسرعة قبل 20 يناير، لأن إدارة ترمب قالت إن سوريا ليست معركتها.