
اعتدنا كل يوم جمعة أن نقرأ سورة الكهف، لكنني اليوم قرأتها بعين مختلفة، بعين تبحث عن المعنى وراء الكلمات، لا عن السياق الروحاني فقط، بل عن الحكمة الإدارية والقيادية التي تتجاوز حدود الزمن.
وأثناء القراءة، أدركت أن سورة الكهف ليست مجرد سورة مليئة بالقصص، بل هي منهج كامل في القيادة وإدارة التحديات واتخاذ القرار، تعلمت منها درسًا جوهريًا: أن القيادة لا تُقاس دائمًا بما يظهر على السطح من أرقام ونسب ونتائج، بل بما يكمن خلف الأحداث من صبر وحكمة وقدرة على رؤية الصورة الكاملة.
الأرقام لا تصنع قائدًا… والرؤية وحدها هي البوصلة
اليوم تعيش المجتمعات والمؤسسات هوسًا بالأرقام: نسب نمو، نسب إنجاز، عائد استثمار… وغيرها. لكن الحقيقة أن جداول الأرقام وحدها لا تصنع النجاح، فالنجاح الحقيقي هو نتاج رؤية بعيدة المدى، وصبر على النتائج، وإيمان بالخطوات، وتواضع في اتخاذ القرار، وحكمة في إدارة المخاطر قبل أن تتحول هذه المخاطر إلى أزمات.
قصة موسى والخضر: نموذج القيادة العميقة
من أعمق قصص سورة الكهف وأكثرها ارتباطًا بالقيادة قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر.
فقد كان موسى رمزًا للعلم والحكمة، لكنه أمام حكمة الخضر شعر بأن هناك بُعدًا آخر للمعرفة لا تدركه العيون، بل يتطلب صبرًا وفهمًا أعمق.
تجسّد هذا المعنى في قوله تعالى:
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾
هذه الآية ليست مجرد سؤال، بل هي رسالة واضحة لكل قائد وكل مسؤول: لن تستطيع الحكم على الأحداث من ظاهرها، ولن تفهم القرارات العميقة دون صبر ورؤية وحكمة تتجاوز ما تراه الآن.
فما يجري فوق السطح قد يكون مجرد انعكاس لقرارات مبنية على معرفة غير مرئية للآخرين، تمامًا كما كانت أفعال سيدنا الخضر ظاهرها غريب، لكن باطنها رحمة ونجاة.
القائد الحقيقي… من أين يأتي؟
القائد الحقيقي ليس من يتفاخر بالأرقام، ولا من يلوّح بالإنجازات اللحظية، بل هو:
من يمتلك بصيرة قبل البصر
من يجمع بين الحكمة والتخطيط
من يؤمن بأن العمل عبادة والإتقان رسالة
من يمارس التواضع حتى عند امتلاك القوة
ومن يصبر على النتائج ولا يتعجل الثمرة
هذه هي القيادة التي تحدث عنها القرآن دون أن يذكر كلمة “قيادة” صراحة، لكنها تتجلى في كل سطر من سطور سورة الكهف.
سورة الكهف… ليست قصصًا بل “مدرسة قيادة”
من وجهة نظري، سورة الكهف تقدم أربعة نماذج إدارية عظيمة:
أصحاب الكهف: اتخاذ القرار تحت الضغط
صاحب الجنتين: اختبار الغرور الاقتصادي
موسى والخضر: القيادة بالحكمة والمعرفة العميقة
ذو القرنين: التمكين مع العدل
كل قصة منها تحمل درسًا واضحًا لأي قائد يريد أن يبني مستقبلًا مستدامًا قائمًا على التوازن والفهم العميق.
القيادة ليست في أن نعرف كل شيء، بل في أن نعرف كيف نصبر على ما لم ندركه بعد.
وهذا هو عمق الرسالة في قول الله تعالى:
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾
﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾
﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾
صدق الله العظيم.






