منوعات

عادل الجمال يكتب : عبد الحميد وأنا!!

(1) عبد الحميد وأنا
أضع القرش صاغ تحت الوسادة …أحتضن صحن الصاج الأزرق المطلي بالميناء بينما تحتضنني أمي و تهدهدني حتى أروح في النوم .

يتسرب أول خيط من خيوط الصباح متزامنا مع النداء الشجي لعم عبد الحميد بائع الفول الصعيدي ” الورد فتح لجمال النبي … يالوووز”… انسل سريعا من فراشي.. يد صغيرة تحمل الصحن و أخرى تقبض على القرش صاغ..

أنطلق على السلم بجسدي الهزيل مترنحا في نعاسي…. أعطي عبد الحميد القرش فيمتلئ الصحن إلى حافته بالفول المدمس الساخن… تهرع جارتنا طنط أم احمد الطيبة التي تسكن الدور الأرضي لتحمل الطبق عني .. تلتقينا أمي في منتصف السلم المؤدي لشقتنا. يظل صوت عبد الحميد يتردد في اذني ليل نهار حتى يحين موعد لقائنا في الصباح التالي .

مازال هذا الطقس الصباحي الجميل – الذي كان يتم غالبا عقب صلاة الفجر بقليل – محفورا في ذاكرتي إلى الآن حتى بعد أن اختفى عبد الحميد … وتحول حي الجون العريق إلى مبان حديثة عاليه سرقت من الحي جماله وبساطته وشتت اهله الطيبين.

(2) عبد الحميد
عبد الحميد نحيف لا تعرف له سنا .. ممشوق القامة .. أسمر لفحته شمس الصعيد الحارقة قبل أن تسوقه الأيام إلى الفيوم ..و رغم وجهه الذي يعج بالتجاعيد تراه مبتسما دائما.. ومرتديا دائما جلبابا يصعب على أعتى الفنانين تحديد لونه ومن فوقه معطف كاكي لا يتغير على مر المواسم .

” الورد فتح لجمال النبي.. يالوز” هكذا ينادي على الفول بصوت جميل و نغمة ساحرة لا تخلو من شجن. يمر على شوارع وحواري حي الجون وهو يدفع عربته الخشبية المغطاة التي لا يظهر فوق سطحها سوى فتحة قدر المدمس الكبير بينما تتدلى المغرفة من جانب العربة الأيمن.

يتهافت عليه أكلة الفول و يتحول الحي إلى مهرجان فلكلوري غاية فى الثراء. فقط بعد ساعة يفرغ قدر المدمس ما في جوفه و تمتلئ جيوب المعطف الكاكي بالقروش وأنصاف القروش التي لا يخطئ السمع رنينها الصاخب.

يعود عبد الحميد مجبورا إلى حيث يسكن في الجهة المقابلة لمجلس المدينة الحالي فيما كان يعرف وقتها بـ “عشش الصعايدة” التي هي توليفة عجيبة من عشش الصفيح و الطين و الكرتون ، و كانت موطنا لباعة اللب والسوداني والترمس والدوم و حب العزيز و السكر الجلاب والقراداتيه ومن لا مهنة له .

ظل عبد الحميد يشجينا بصوته ردحا من الزمان إلى أن اختفى فجأة وبلا مقدمات. قيل أنه قتل.. وقيل أنه هرب من الفيوم بعد أن اكتشف مكانه اصحاب الثار من بلدته بالصعيد… وقيل أنه سجن بعد أن قتل ابنته التي دارت على حل شعرها و انفلت عيارها. قيل … وقيل…

وتبقى الحقيقة أن عبد الحميد اختفى … و أننا حرمنا من ندائه ” الورد فتح لجمال النبي .. يالوز” .. وأن حي الجون فقد بساطته و تقاليده.. وأن عشش الصعايدة أزيلت و حل مكانها مباني غاية في القبح.. وأن عبد الحميد اختفي و طواه النسيان.. و أنني مازلت أذكره بعد أكثر من خمسين عاما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى