أفلا يتدبرون القرآن.. “هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ”.. قال الله ـ تعالى ـ : “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”.
فالحكمة الأهم من إنزال القرآن ـ كما قال “السعدي” في تفسير الآية ـ هي أن يتدبر الناس آياته فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها .
وعن نَهيكِ بنِ سنانِ السُّلميِّ أنه أتَى عبدَاللهِ بنَ مسعودٍ ، فقال : قرأت المفصّلَ الليلةَ في ركعةٍ ، فقال : هَذًّا مِثلَ هذِّ الشِّعْرِ ؟ أو نثرًا مثلَ نثرِ الدَّقَلِ ؟ إنما فُصِّل لتُفَصِّلوا .
[الهَذُّ : شدَّةُ الإسْراعِ والإفْراطِ في العَجلةِ .
والدَّقَل : رديء التمر ، أو هو اليابس منه ، فإذا هُزَّ العذق تساقط ، وخرجت له أصوات ، وتتابع بعضه مع بعض بسرعة ، ولا يحفط ، ويلقى منثورا لرداءته .
أي : هلْ تَقرَأُ القرآنَ مُسرِعًا غيرَ مُتدبِّرٍ كأنَّكَ تَقرأُ شِعرًا ؟
أو ترمي بكلماته من غير روية وتأمل كما يرمى رديء التمر ؟!]
كأنّ ابن مَسعود يُنكِر عليه قراءتَه المفصَّلَ في ركعة واحدة ، وعدمَ تدبُّرِه وتأمُّلِه في الآياتِ .
كانت هذه مقدمة لا بد منها لأذكر ما وقفت عنده عندما تأملت كلمة واحدة في سورة “الحاقة ضمن قوله ـ تعالى ـ :
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ”
إذ وجدت أن معنى كلمة “هلك” في اللغة : “مات ، أو فني” ، ومعنى كلمة “سلطانيه” : “ملكي ، وجاهي ، وقوتي”
ووجدت أن المفسرين يقولون : إن “هلك” هنا ضُمِّن معنى “ذهب ، أوضاع ، أوغاب” ، بدليل أنه تعدى بـ “عن” .
وأن المعنى أنه مما يجأر به صاحب الشمال حين يؤتى كتابه : ذهب عني سلطاني الذي كنت فيه .
ويتبادر إلى الذهن سؤال : لماذا عبر القرآن الكريم بـ “هلك” ، وليس بواحدة من هذه الكلمات المذكورة ؟
وإجابته تصل بالمتأمل إلى إعجاز القرآن الكريم وروعة بيانه في هذا التعبير (“هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ”)
إذ سيجد بعد التأمل في السؤال وإجابته أن التعبير بـ “ذهب” ، أوشبيهها من الألفاظ المذكوة فيه احتمال العودة ، فالذي يذهب عودته محتملة .
فلو قيل مثلا : “ذهب فلان إلى مكان كذا” فاحتمال عودته جائز ، وممكن .
أما الذي مات ، أوفني فعودته مستحيلة .
فالله ـ تعالى ـ يقول ـ وهو أعلم بمراده ـ سبحانه ـ :
* إن صاحب الشمال هذا فقد سلطانه بلا أمل في رجوعه ، فلم يعد ينفعه ما كان يملك من عَدَد ، وعُدّة ، ولا جاه وسلطة .
* ويا من تحتمي بذي منصب أو جاه أو جبروت ، ونسيت رب الملك والملكوت تأكد أن ذلك زائل بلا رجعة ، فكل سلطان ذاهب لا محالة عن صاحبه ، فكيف ستحتمي بسلطانِ مَن لا يدوم سلطانه ؟
وبعد : ـ
فيا أيها المسلم اتلُ كتاب الله حق تلاوته ، فأَحْسِن تلاوته ، وتَدَبَّرْ آياته ، ولا تكتفِ بهذِّه دون وعي ، أو حِفْظه دون فهم .