كان “ممدوح سالم” شاهدا على توظيف “عبد العزيز حجازى” من داخل الوزارة, لضرب رئيسها – عزيز صدقى – ليحل محله بعد فترة ترأس خلالها الوزارة “أنور السادات” بنفسه.. كانت الحجة فى ذلك هى إعداد الدولة للحرب!!
تم التخلص من “عزيز صدقى” الذى قامت على أكتافه.. بجهده وعقله.. أهم نهضة صناعية شهدتها مصر فى العصر الحديث.. بدا أن “رجل الصناعة” الأول والأخير منذ إعلان الجمهورية, كان يمثل عائقا فى طريق إعداد الدولة للحرب.. هنا اندهش “ممدوح سالم” الذى سمع “السادات” يكرر: “إحنا عندنا عتاولة سياسة.. صناعة وأمن.. هما عزيز صدقى وممدوح سالم”!!
عقلية رجل الأمن – ممدوح سالم – جعلت علامة استفهام كبيرة لا تغيب عن عقله.. إنعكس ذلك على أسلوبه فى التعامل مع “عبد العزيز حجازى” عندما أصبح رئيسا للوزراء.. أبلغ “السادات” بما يحدث من وزير الداخلية.. إنفرجت أسارير الرئيس, لأن الوزير لا يتعامل مع رئيس الوزراء بما يستحقه موقعه من تقدير.. الأكثر من ذلك أنه بارك الحالة وشجع عليها.. تفاقمت الأمور ووصلت إلى حد الصدام ثم المواجهة بين “حجازى” و”سالم” أمام مجلس الوزراء!!
إنتصر “السادات” لوزير الداخلية الذى يملك تفاصيل ما يحمله “الصندوق الأسود” منذ أحداث “ثورة كوبرى 15 مايو” وما حدث بعدها.. إختاره رئيسا للوزراء.. كلفه بتشكيل “حزب الوسط” الذى اختار له “ممدوح سالم” اسم “مصر العربى الاشتراكى” وفاز بالأغلبية.. حضر إلى جانبه “حزب التجمع” برموزه, وفاز “حزب الأحرار” بعدد من المقاعد إلى جانب مجموعة من المستقلين البارزين..
ترأس “سيد مرعى” مجلس الشعب, ليظهر خبراته وقدراته فى التعامل مع نواب المعارضة قبل الأغلبية.. يكسب تقديرهم لدرجة أن سجلوا رأيهم فى مضابط الجلسات.. تدخل “السادات” ليفرض قراره بإسقاط عضوية “كمال الدين حسين” ثم كانت جلسة 20 مارس 1978.. يشهد المجلس استجوابا تقدم به “عادل عيد” المحامى ونائب إحدى دوائر الإسكندرية, إلى الشيخ “محمد متولى الشعراوى” وكان وزيرا للأوقاف..
تناول الاستجواب وقائع فساد فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية, وكان يترأسه “توفيق عويضة” واستمر عرضه لنحوالساعتين.. قدم خلالها النائب وثائق ومستندات مذهلة.. وقف الشيخ “الشعراوى” ليرد على ما تم كشفه أمام النواب والصحف.. تناول “زمن عبد الناصر” بالهجوم وأنه كان “زمن مراكز القوى” وهذا يلقى ارتياحا واستحسانا عند القيادة السياسية.. ثم قال: “والذى نفسى بيده.. لو كان لى من الأمر شئ, لحكمت الرجل الذى رفعنا تلك الرفعة.. انتشلنا مما كنا فيه إلى قمة ألا يسأل عما يفعل”!! وكان يقصد “السادات” لينفجر الشيخ “عاشور نصر” منفعلا.. صارخا: “مافيش حد فوق المساءلة.. لنرعى الله”!! يرد عليه الشيخ “الشعراوى” قائلا: “أنا أعرف بالله منك.. أنا أعرف بالله منك.. إن الرجل الذى شجع هذه الشجاعات.. يجب أن نقدر كل قراراته وكل آرائه.. تقديرا فى مستوى ما وضعه الله فى أيدى البشر – يقصد السادات“.. لترتفع هتافات النواب “الله أكبر.. الله أكبر” .. مع تصفيق حاد.. ثم إعلان سقوط الاستجواب والانتقال إلى جدول الأعمال.. جاءت الجلسة التالية مباشرة.. وقف “مصطفى كامل مراد” لعرض طلب احاطه عن أزمة “رغيف العيش” ليرد عليه “زكريا توفيق عبد الفتاح” وزير التموين, بأن طلب من أحد معاونيه إحضار كمية من “العيش” لعرضها على النواب.. ما يعرضه الوزير لا علاقة له بأى حال من الأحوال, بما يشتريه ويأكله المواطن خارج القاعة.. مرة أخرى.. ينفعل الشيخ “عاشور نصر” ويقول: “أنا خارج أحسن”!! يرد عليه “سيد مرعى” قائلا: “مع السلامة”!!..
رفض الشيخ “عاشور” الانصراف فى صمت.. قال بصوت عال: “دة مسرح مجلس الشعب”!! يعلن رئيس المجلس – سيد مرعى – على الفور: “يحال اعتراض الشيخ عاشور وإهانته للمجلس إلى اللجنة المختصة لتقديم تقرير عنه إلى المجلس”.. يطلب التصويت على قراره.. الأغلبية جاهزة بالموافقة.. يطلب إخراج النائب من القاعة, وعدم حضور الجلسة.. صرخ الشيخ “عاشور” وهو فى حالة غضب شديد: “يسقط أنور السادات”.. فسمع رئيس المجلس يسأله: “ماذا تقول”.. ليرد بأعلى الصوت: “يسقط أنور السادات”!!
تعلن الأغلبية ثورتها.. تهتف “يعيش أنور السادات” ويقف النائب “سماح صبيح” ليقول: “لابد أن يقوم المجلس بمحاسبة الشيخ عاشور.. وإلا سأقوم أنا بمحاسبته”.. فيبادره “سيد مرعى” قائلا: “الشيخ عاشور يجب أن يحاسب على إهانته للمجلس وإهانته لرئيس الجمهورية”.. وطلب من اللجنة المختصة أن تنعقد فورا, على أن تقدم تقريرها فى اليوم نفسه.. تناقش جلسة 27 مارس تقرير اللجنة.. طلب “ممتاز نصار” الاكتفاء باستنكار ما وقع من العضو.. الكلام مرفوض.. يتم إعلان إسقاط العضوية.. يحاول الدكتور “محمد حلمى مراد” مع “أحمد ناصر” عرض اقتراح آخر بالتجاوز عما قاله النائب وحذفه من المضبطة.. يقف الشيخ “عاشور” ليدافع عن نفسه فقال: “هتافى قصدت به تنبيه وتحذير رئيس الجمهورية لمصلحته, خاصة وأننى ممنوع من الكلام”!! فتم عرض قرار إسقاط العضوية.. وافق عليه 271 عضوا, وأعلن 16 رفضهم.. بينما انسحب نواب “الوفد الجديد” من الجلسة!!
التفاصيل حملها كتاب “البرلمان المصرى” الذى أصدره “جلال السيد” و”سامى مهران”.. وذكرا أن “سيد مرعى” كان مع فكرة تناول الرئيس “السادات” عن حقه الشخصى, لتفادى مسألة إسقاط العضوية.. لكن الرئيس تمسك بأن تسقط العضوية, وحسم الأمر تجاه “سيد مرعى” الذى راح يحدثه عن التاريخ.. وأن تكرار إسقاط العضوية, يقلل من قيمة المجلس فى نظر الشعب.. وحاول إقناعه بأن تنازله عن حقه الشخصى, سيضاعف الغضب عند الناس تجاه النائب.. لكن الرئيس رفض كل هذا وأصر على طرد النائب, الذى بقى هتافه “يسقط أنور السادات” جرحا غائرا فى أعماقه!!
المعلومات صادمة لكل “عشاق السادات” وأنصحهم قبل الانفعال, أن يذهبوا إلى “السادات.. الحقيقة والأسطورة” بقلم “المحامى الأول والأكبر” عنه – موسى صبرى – مع تسجيل أنه ذكر كل هذه الحقائق, بصياغة يفهمها دون أن يجيدها “أراجوزات التنوير” كما أن مضابط مجلس الشعب ترقد فيها هذه الوقائع فى صمت!! وللأمانة يجب أن نذكر أن إسقاط العضوية, سلاح إستخدمه حزب “الوفد” فى برلمانات قبل الثورة.. كان من ضحاياها “مكرم عبيد” نفسه!!
حدث ذلك على ضفاف زلزال “18 و19 يناير 1977” قبله وبعده!!
كانت الأجواء شديدة التوتر.. فقبلها بنحو عام أعلن “أحمد أبو اسماعيل” وزير المالية آنذاك, أن العام 1975, هو الأسوأ اقتصاديا وماليا على مصر.. كانت عاصفة الولايات المتحدة الأمريكية قد جرفت “السادات” ليتحدث كثيرا عن “الرخاء والتنمية”.. ويسخر دائما من حكاية “العزة والكرامة” التى كان “عبد الناصر” لا يكف عن التأكيد عليها مهما كان ثمنها!!
واكتشف “السادات” أن الديمقراطية لعبة شديدة الخطورة.. ثمنها عمل ومواقف وشجاعة فى القول والفعل.. أراد الديمقراطية شكلا, على أن تسمح له أن يفعل ما يشاء.. إعتقد أن خلط الدين بالسياسة فيه كلمة السر.. أطلق يد “جماعة الإخوان” وهى تدعمه وتؤيده.. أغدق على رجال الدين, وقدم الشيخ “محمد متولى الشعراوى” بما له من مكانة وتقدير لعلمه ليكون وزيرا للأوقاف.. لكن “الأزهر” بقيادته يسبب له صداعا خفيفا بمواقف حاولت أن تكون هادئة ومتزنة يعبر عنها شيخه!! وكان “رجال المال” الجدد الذين تم إطلاق وصف “رجال أعمال” عليهم.. يقاتلون معه ودفاعا عنه بشراسة وضراوة.. فى الكواليس تدفعه “واشنطن” إلى هذا الطريق.. تقنعه أنه “سكة السلامة” لأن “صفقة القرن العشرين” كانت قد نضجت.. بقيت خطوة واحدة.. معاهدة سلام مع إسرائيل!!
وجد “السادات” نفسه عند مفترق طرق!!
إختار “اللعبة الصفرية” بأن يكسب كله أو يخسر كله!!
قرر إعلان مبادرة الذهاب إلى “القدس” فى نوفمبر من هذا العام.. تلقفها الإعلام الغربى, ومطابخ السياسة الغربية.. أقاموا له الأفراح والليالى الملاح.. ذهب إلى “الكنيست” وألقى خطابا رائعا.. توارى الاقتصاد.. أصابت السياسة حالة جنون.. الأغلبية كانت مازالت تعيش حلم “الرخاء والرفاهية” والمعارضة تم حصارها.. دارت عجلات السلام وسط حالة انفعال عربى.. شارك فيها الذين يرفضون عن قناعة.. كما شارك الذين يوافقون فى الكواليس, وحصلوا على ضوء أخضر” من “واشنطن” بأن يسايروا ركب الرافضين.. فهذه حالة ضغط مثالية على “السادات” نفسه, لكى لا يفكر فى التراجع خطوة واحدة!!
إنتصرت “واشنطن” مع “تل أبيب” قبل الذهاب إلى “كامب ديفيد”!!
تكونت ما سميت بجبهة “الرفض” تتصدرها “بغداد” و”الرياض” و”دمشق”.. ولم يجد “السادات” من يؤيده بتحفظ سوى “سلطنة عمان” و”السودان”.. وتأكدت “موسكو” أن علاقتها مع “القاهرة” إنتهت بلا رجعة.. وقفت دول “عدم الانحياز” فى حالة ذهول.. راحت دول قارة إفريقيا تراجع مواقفها تجاه إسرائيل.. دافع عن السلام الذين اعتقدوا فى أن الذهاب إليه, سيفرض “ديمقراطية ما قبل 23 يوليو” وأن الكلمة ستكون للشارع الذى يسهل التلاعب بمشاعره!!
عاشت مصر.. وعاش العالم.. أفراح السلام المستحيل!!
أصبح “السادات” رجل “الحرب والسلام” المتفرد.. تم تكثيف النيران تجاه “الجمهورية الأولى” وتزايدت حملات تشويه “عبد الناصر” وزمنه.. إتفق الفرقاء على أن 23 يوليو 1952 كانت خرابا فى خراب.. إنطلق “مارد الفساد” وشعر “شيطان جماعة الإخوان” بأنه أصبح مطلق اليد.. راحوا يمارسون “الابتزاز” على الرئيس الذى أعلن “الرخاء والرفاهية” ليصل فقط للمغامرين والسماسرة وجماعة الإخوان.. كما تمتعت بهما إسرائيل, فراحت تضرب فى “لبنان” و”العراق” وتلاعب “الأردن” مع حصار “ليبيا” و”سوريا” وغيرهما من الدول العربية التى تشاغلت بأنها تفكر!!
عاش “السادات” شهوره الأخيرة بين “مطرقة” خصومه و”سندان” أصدقائه.. راح يحاول إعادة ترتيب البيت من الداخل.. تخلص من “ممدوح سالم” كما تخلص من “سيد مرعى” وكان قد تخلص من “عبد الغنى الجمسى” وبقى “حسنى مبارك” يلعب معه الدور نفسه الذى لعبه مع “عبد الناصر” باختيار “الصمت” وسيلة.. الموافقة على كل ما يفعل ويقول.. تنفيذ كل ما يريده منه, دون إثارة أية عواصف تجاهه..
إستوعب “منهج السادات” فى الحكم بقناعة.. أعلن اختلافه تماما لمجرد غيابه.. أعاد إنتاج المنهج بأسلوبه.. حقق نجاحا فاق “السادات” صاحب المدرسة.. يعلن رفضه للنفاق الاجتماعى, ويحرض على ممارسته.. يتحدث عن النزاهة, ويدعم الفاسدين بدعوى دعم القطاع الخاص.. يطلق سراح السجناء ويلتقيهم فى القصر الجمهورى.. ثم يباعد المسافة بينه وبينهم فى هدوء.. يؤكد التزامه بالسلام, مع تمسك بالقانون الدولى الذى يعيد “طابا” إلى مصر بفضل رجال قانون دولى مشهود لهم بالكفاءة.. يدعو إلى “حوار وطنى” و”مؤتمر اقتصادى” يرسم خطوات المستقبل.. يتجاهل كل ما يقال, ويمضى فى الطريق الذى رسمه “السادات” فى مضمونه.. يتعامل مع “جماعة الإخوان” بطريقة “الباب الدوار” بأن يسجن بعضهم, ويفرج عن بعضهم من الذين اعتقلهم.. يحظى بدعم “واشنطن” لعودة مصر إلى العالم العربى.. يقبل أسلوب الدعم الجزئى اقتصاديا.. يستثمر ببراعة إلى حد ما التطورات الإقليمية والدولية.. تنقذه مغامرة “صدام حسين” فى “الكويت” من نهاية مبكرة.. وبقيت مصر تراوح مكانها, حتى قال “محمد حسنين هيكل” فى نهاية عام 1995, أن: “مصر تعيش أزمة سلطة شاخت فوق مقاعدها”!!
سقط “السادات” وعاشت “الجمهورية الثانية”! سقط “مبارك” وعادت “الجمهورية الثانية”! .. بقيت “الجمهورية الأولى” تقاوم وتنتظر!!.