يحترم التاريخ الذين يتعاملون معه على أنه “علم الحقيقة” بتقدير!!.. يسخر التاريخ من الذين يراهنون على “سهولة تزويره” بالإفراط فى الثرثرة!!
كثيرة هى الوقائع الكاشفة لمنهج “الجمهورية الثانية” وأساليب الذين حكموها.. كان مؤسسها ينفث غليونه – البايب – ويتخذ قراراته, كما قال له “مناحم بيجن” ذات مرة.. وإمعانا فى إهانته قال له: “الكنيست هو الملك فى إسرائيل.. يملك الرفض والقبول لقراراتى”.. وكان مدهشا أنه عبر الكلام دون توقف أمام المعنى.. وعلى دربه سار خلفاؤه فى ممارسة خداع الشعب, ودائرة الذين يحيطون به كحاكم.. سمح ذلك لشركائه فى الحكم أن يبادلوه الخداع.. بخداع.. جعلهم يمارسون الكذب على أنه سياسة!!
قبل أن ينفعل “عشاق السادات” والذين حكموا بعده.. أتوقف عند ذكر “موسى صبرى” فى كتابه عن “الحقيقة والأسطورة” أن: “الرئيس اعتبر ما حدث فى 18 و19 يناير عام 1977, مثل عملية استيلاء لينين على موسكو ووثوبه إلى السلطة عام 1917”.. رغم أن هذه المظاهرات كانت عفوية.. بلا قائد يحركها.. تم اتهام الشيوعيين والناصريين بأنهم كانوا ورائها.. وبعد سطور قليلة يأخذنا “موسى صبرى” لتفاصيل اجتماع له معه “على حمدى الجمال” رئيس تحرير “الأهرام” مع “سيد فهمى” وزير الداخلية وحضره “حسن أبو باشا” رئيس مباحث أمن الدولة.. وأوضح: “أطلعنا الوزير على المنشورات التى تم ضبطها, وكانت تصدرها التنظيمات الشيوعية تحت الأرض” ثم يضيف “موسى صبرى” حكاية تنسف الكلام والمنطق بجذوره, فيقول: “فى هذا الاجتماع.. إكتشفت أن أحد أقطاب حزب يسارى كان على اتصال مستمر بوزارة الداخلية.. كان ينقل إليهم أخبار تحركات المظاهرات.. وهذا القطب من أصحاب الأقلام المتحمسة جدا بعد موت السادات فى التشهير بحكم السادات وأساليب وزارة الداخلية.. ويقدم نفسه على أنه من أبطال الحرية فى كل ما يكتب”!!
أفهم أن يكون اليسار وراء المظاهرات!!
لا أفهم.. لماذا فشلت الداخلية فى نزع فتيلها أو إجهاضها قبل وقوعها؟! فقد كانت عندهم أسرارها وأخبارها عبر “قطب يسارى” يتعاون مع أمن الدولة.. وكان هذا “القطب” ينقل لهم أخبار تحركات المظاهرات, ورغم ذلك عجزت الداخلية عن حصارها أو مواجهتها.. وترتب على ذلك استدعاء القوات المسلحة لأول مرة منذ 23 يوليو 1952, لاستعادة الأمن فى البلاد!!
الحقيقة أن ما حدث فيما أسماه السادات “إنتفاضة حرامية” كانت له مقدماته!!
قرر الرئيس – آنذاك – تطبيق “روشتة صندوق النقد” بحثا عن قرض ينقذه من أزمة اقتصادية خانقة.. أعطى الضوء الأخضر إلى المجموعة الاقتصادية بأن تمضى فى هذا السبيل.. بينما رئيس الوزراء “ممدوح سالم” وباقى الوزارة يأخذون الطريق العكسى.. يكشف ذلك عناوين صحف الأيام الأولى من العام 1977, وتحديدا يوم أول يناير صدرت “الأهرام” لتزف بشرى للشعب بعنوان رئيسى – مانشيت – يقول: “تثبيت جميع أسعار السلع عام 1977 وتحسين أوضاع العاملين فى الدولة”.. والتفاصيل تحمل تصريحات على لسان رئيس الوزراء, الذى تحدث عن رفع المعاناة عن الشعب.. وأعلن تجاوز الصعوبات الاقتصادية.. وتوقع زيادة معدل الصادرات والإنتاج.. مع ضبط نفقات الحكومة, وتحقيق المزيد فى إنتاج المحاصيل وتوفير اللحوم والدواجن..
وفى اليوم التالى – 2 يناير – صدرت “الأهرام” بعنوان رئيسى – مانشيت – يقول: “السادات يطلب الإسراع بإصدار قوانين العاملين والإسكان والضرائب” وبعده عنوان آخر: “الرئيس يبحث مع القيادات السياسية توفير الغذاء والكساء للجماهير.. وتثبيت أسعار السلع الحيوية عام 1977” وفى يوم 3 يناير تحمل “الجمهورية” تأكيد للبشرى بمانشيت: “لن ترتفع أسعار السلع الحيوية” وتدخل “الأخبار” المزاد يوم 10 يناير بعنوان يقول: “السادات يطلب ألا يتحمل هذا الجيل كل التضحيات” ونصل إلى يوم 12 يناير ليخرج الدكتور “جمال العطيفى” وزير الإعلام من اجتماع مجلس الوزراء ليؤكد: “عرض ممدوح سالم رئيس الوزراء فى بداية الاجتماع توجيهات الرئيس السادات بشأن تثبيت الأسعار”.. ونصل إلى يوم 16 يناير حيث كان عنوان “الأخبار” ينقل: “إجتماع هام للهيئة البرلمانية لحزب مصر لدراسة تثبيت أسعار السلع الضرورية”!!
كان ينقص بعد كل هذا أن يقسم الرئيس على المصحف أن كلامه صادق!!
صباح يوم 17 يناير.. يقف “عبد المنعم القيسونى” نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية, وكان يطلق عليه “رئيس المجموعة الاقتصادية” أمام أعضاء “مجلس الشعب” ليعلن رفع الأسعار وإلغاء الدعم الذى تقدمه الدولة للسلع الضرورية.. بداية من رغيف الخبز مرورا بأسعار الخضر والسكر والشاى والدخان والبترول والمنسوجات!!.. ليجد الشعب نفسه أمام كلام أخذ طريقا عكسيا للحقيقة.. الرئيس ورئيس الوزراء يقولون كلاما.. بينما رئيس المجموعة الاقتصادية يعلن قرارات فى الاتجاه العكسى, وأمام الذين يسمون أنفسهم “نواب الشعب” وقد صفقوا كثيرا للذى أعلن القرارات.. كما صفقوا للذين أقسموا على أنها مستحيلة ولن نذهب إليها!!
من الذى يكذب؟!
هل الرئيس ورئيس الوزراء يكذبون على الشعب.. أم أن نائب رئيس الوزراء قام بانقلاب؟!
عرف الرئيس ما حدث.. صفق الوزراء مع النواب للقرارات.. لم يصدر تكذيب للحقيقة الصادمة.. تحمل صحف صباح يوم 18 يناير تكذيبا لكل ما نشرته قبلها, بإعلان ما أسموه قرارات “الإصلاح الاقتصادى”.. ومنذ هذا اليوم لم تفارقنا هذه “الجنية” التى لبست الحكومات بعد هذا التاريخ!!
إنفجر الشعب فى طول البلاد وعرضها!!
الهتافات تدوى بصراخ الناس الذى يحمل ملامح “صورة مصر” وقتها.. الشعب يقول: “مش كفاية لبسنا الخيش.. جايين ياخدوا رغيف العيش”!!.. ويقول: “إحنا الطلبة مع العمال.. ضد حكومة الاستغلال”.. ويسخر: “يا حكومة الوسط وهز الوسط.. كيلو اللحمة بقى بالقسط”!!.. ويهتف: “يشربوا ويسكى وياكلوا فراخ.. والشعب من الجوع أهو داخ”.. ويقولون: “يا أمريكا لمى فلوسك.. بكرة الشعب العربى يدوسك”.. وبعدها: “الصهيونى فوق ترابى.. والمباحث على بابى”.. وحضر “عبد الناصر” بهتاف: “عبد الناصر ياما قال.. خلو بالكو من العمال”.. وأيضا: “يا جمال يا عود الفل.. من بعدك شفنا الذل”!!
اعتقد الرئيس أن الشعب مازال حوله كما كان فى بداية حكمه حين حدثهم عن الحرية والديمقراطية!!
راهن “السادات” على أنه بطل الحرب الذى يحق له أن يفعل ما شاء بالوطن!!
ارتبك الجميع.. عاشت مصر ساعات مذهلة.. حرائق ونهب وسرقة فى كل مكان.. الصدمة صنعت جنونا سيطر على الذين يحلمون بالرخاء والرفاهية.. هى المعانى التى عبرت عنها “روز اليوسف” بأقلام “عبد الرحمن الشرقاوى” و”صلاح حافظ” و”فتحى غانم”.. بل كتبها “مصطفى أمين” على صفحات “الأخبار”.. ولم ينقذ البلاد غير نزول الجيش الذى يحظى بتقدير واحترام عموم الشعب.. عاد “السادات” من “أسوان” وتم الإعلان عن إلغاء زيارة “تيتو” قبل ساعات من وصوله.. كما تم الإعلان عن إلغاء قرارات الحكومة كلها!!
انكسرت مصداقية الرئيس وأصاب شرعيته شرخ عميق!!
قرر أن يلتف على الحقيقة بإعلان حرب شعواء على الشيوعيين والناصريين.. كان كلامه رسائل للولايات المتحدة الأمريكية.. يحمل استغاثة بدول الخليج.. كلهم تركوه يواجه مصيره أو يفكر بين اختيارين.. إما الرحيل أو الذهاب إلى الصلح مع إسرائيل.. ومن جانبه فهم المعنى ورسالة الصمت من جانب الذين راهن عليهم.. راح يخلط الأوراق فى سلسلة خطابات وإجراءات واستفتاءات على قوانين تعيد له هدوء واستقرار من حيث الشكل.. ولم ينته العام حتى قرر تفجير صدمة بقفزة مذهلة للأمام.. أعلن مبادرته للسلام وذهب إلى “القدس”!!
سقط فى المظاهرات 80 قتيلا و600 جريحا حسب الجهات الرسمية!!
ذكرت وكالات الأنباء والصحف الغربية أن 300 قتيلا سقطوا وألف جريج, لتتجاوز حصيلة ما شهدته مصر يوم فتح كوبرى عباس على الطلاب خلال وزارة “إسماعيل صدقى” الثانية!! وصدر كتاب “البارود والسلطة” للكاتب “تيرى ديز” الذى ذكر فيه أن: “قوات الأمن المركزى كانت تطلق الرصاص فى كل اتجاه على الجوعى الذين كشفوا حقيقة الفقر فى مصر”.. ونال الكاتب الفرنسى قسطا من سباب الرئيس فى أحد خطاباته بعد صدور كتابه!!
واقعة أخرى كتب تفاصيلها “موسى صبرى” كبرهان على ذكاء “السادات” وبراعته!!
يقول أن “إسماعيل فهمى” هاجم الصحافة باعتبارها مسئولة عما حدث فى “الانتفاضة الشعبية” وتمسك “السادات” بأنها “إنتفاضة حرامية” ويذكر التفاصيل: “هاجم وزير الخارجية الصحافة واتهم موسى صبرى بضرب سياسة الوزارة مع الاتحاد السوفيتى.. وسأله السادات خلال اجتماع رسمى كيف؟! فشرح أن رئيس تحرير الأخبار يعلم بعد أن شرحت له, خطتنا لتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتى.. فوجئ وزير الخارجية بأن الرئيس يقول له: لقد وافقت على هذا الهجوم بل طلبت منه ذلك”!!
وزير الخارجية يمضى فى اتجاه.. بينما الرئيس يطلب من الصحافة مهاجمته!!
بدأ “السادات” يضيق ذرعا بحلفائه الجدد “جماعة الإخوان” لأنهم لم ينصفوه فى أزمته الكبرى.. ذهب إلى اتهام التنظيمات الدينية المتطرفة بمهاجمة ملاهى شارع الهرم.. ويقول “موسى صبرى” فى كتابه: “كان السادات فى قمة الألم.. يرى جحودا من الماركسيين الذين سمح لهم بحزب شيوعى لأول مرة فى التاريخ السياسى – غير صحيح – ويقصد حزب التجمع.. سمح لهم بصحيفة لا تخضع لأى نوع من الرقابة – غير صحيح وشهدت مصادرة أكثر من مرة – لقد أراد أن يوجد التوازن الديمقراطى بين اليمين واليسار والوسط.. والوسط هو الذى يشكل الغالبية كتيار فكرى.. فعاد يقول أن تجربته فى الحياة السياسية علمته ألا يثق بشيوعى أو إخوانى.. مهما عاملتهم بالخير.. فهم ينقضون عليك فى الوقت المناسب”!!
يدافع “موسى صبرى” عن “السادات” فيقدمه “ساذجا” بلا حدود!!
يحاول أن يجعله ديمقراطيا, فيقدم البراهين الكافية على “ديكتاتور” سطحى!!
يعالج ذلك بكلام عاطفى.. إفراط فى إطلاق أوصاف تبحث عن تعاطف معه.. ربما لأن الكاتب يملك قدرات مهنية بلا عمق فكرى أو فهم لما يقبله التاريخ وما يرفضه.. ومن هنا بدأت مأساة “الجمهورية الثانية” التى يعتمد حكامها على الذين يقدرون على تبرير أوهامهم.. فالشعب عندهم عبارة عن جموع يسهل خداعها طالما أنك تملك السلطة والإعلام وتستطيع “فبركة البرلمان” مع صنع أو صياغة “إتفاق قصد جنائى” مع أحزاب وهمية!! وإذا كان ما حدث فى 6 اكتوبر 1981, قد أضاء كل اللمبات الحمراء.. فإن “حسنى مبارك” نجح فى أن يعطلها.. قام بعمليات تبريد كلما سخنت الأجواء, وتسخين إذا شعر بهدوء يثير الريبة حتى سقط مخلوعا مع الفساد.. ولما تمكنت “جماعة الإخوان” حاولت الاستمتاع بالمنهج نفسه, لتجرفها رياح الشعب العاتية.. بدأ الرهان على بداية مختلفة.. حدث ما جعل الشعب يصمت مذهولا.. وينتظر من يقدر أن يذهب به إلى “الجمهورية الثالثة” التى يتم إنضاجها فى الضمير الوطنى!!..