يدهشنى التزام “موسى صبرى” بكل ما ذكره “أنور السادات” فى حواراته معه.. تتضاعف الدهشة حين وجدته يجمعه فى كتابه “السادات.. الحقيقة والأسطورة” دون تدقيق فى المسافة بين ما كان يقوله “السادات”, وما يفعله أو الحقيقة.. وهى مسافة واسعة فى اتجاهين متضادين.. والتزامى بأدب التعبير واجب يفرضه احترامى لقلمى والقارئ!!
لا ينكر أحد على “موسى صبرى” أنه قائد فريق الدفاع عن “الجمهورية الثانية”.. وقد نجح فى ترك أبناء وأحفاد يرفعون راياتها – أراجوزات التنوير – وكلهم لا يحترمون كلمة أو تاريخ.. كلهم يهمهم إرضاء الحاكم فقط – أى حاكم – حتى تدنى مستواهم بقدر ما تضخمت ثرواتهم, وأفلست عقولهم وضمائرهم!!
مفزع أن يقول “السادات” بالنص: “أصدرت قانون الوحدة الوطنية لكى أقول لجميع الأطراف عيب.. قلتها للمتعصبين من الناحيتين.. مجانين.. فقدوا العقل.. سواء شيخ الأزهر أو البابا شنودة.. كلهم فى خط واحد”!! ويخرج من ذلك إلى “هيكل” ليقول عنه: “كان لا يعترف بشئ إسمه المؤسسات.. يقول لى.. إنت البلد.. إنت مصر.. أنت تتدخل دون اللجؤ إلى مجلس الشعب – كان اسمه مجلس الأمة – وقلت له: لا أعترف بالكلام دة”!!
يضيف “السادات” قائلا: “ذات يوم حضر لى هيكل, وطلب منى أن أجلس مع مركز الدراسات فى الأهرام, لأنه يعتبرهم صفوة المفكرين فى مصر.. قلت له: دول فقاقيع.. تفكيرهم محدود.. أنا عشت الشارع السياسى فى شبابى المبكر, وأستطيع أن أحس نبض الشعب.. أنا مؤمن بحكم الشعب”!!.. ولأن “موسى صبرى” كان يعيش ذروة نشوته بما يسمع.. فقد سأله: “وماذا عن علاقته – يقصد هيكل – بليبيا؟!” ليضاعف “السادات” من هذه النشوة بإجابته: “علاقته مع ليبيا كانت مستمرة.. هو إنسان مادى وملحد.. وهو لا ينكر ذلك.. يفهم أن هذه ثقافة, وما يهمه من ليبيا هو الثراء”!!
ذهب الرئيس إلى وصف رأس الأزهر ورأس الكنيسة بأنهم: “مجانين.. فقدوا العقل” ليصبح بعد ذلك اتهامه لهيكل بأنه: “إنسان مادى وملحد” لا يلفت النظر.. إضافة إلى قوله: “يوم أن نشر مقالا بعنوان: كيسنجر وأنا.. ندهت له.. قلت له.. أنا أول ما قرأت العنوان, رحت رامى الجورنال بشرفى.. قيل لى بعد ذلك مضمون المقال.. وقلت له.. لما ذكرت فلان.. كلامك معناه إنه كان عميل أمريكى.. سأخرجه فى أول تعديل وزارى”!! قال السادات الاسم.. ورأى المؤلف عدم نشره!!
يحكى “السادات” بلسانه لتأكيد قدرته على التفكير.. التخوين.. التحقير من الآخرين!!
ينقل عنه “موسى صبرى” قوله: “إنتهيت من فض الاشتباك الأول وهو مبعد تماما.. ذهب إلى اسماعيل فهمى وأخذ يشكك له فى الاتفاق.. وأنه كان من الممكن أن نأخذ أكثر.. جاء لى اسماعيل فهمى يردد هذا الكلام.. هبشته فى مصارينه.. قلت له: عاجبك عاجبك.. مش عاجبك تستقيل”!!
الرئيس “الديمقراطى” لا يقيم وزنا للمثقفين.. لا يحترم رجال الدين.. يعتقد أن وزير خارجيته يردد كلام يقوله “هيكل”.. يكون الرد “هبشته فى مصارينه” ثم يهدده.. إذا كان عاجبك.. أو تستقيل.. وهو كلام ينشره منتشيا “محاميه الأول” الذى يعزف لحن “الرئيس المؤمن” ومن خلفه “فرقة الجمهورية الثانية الإعلامية” تردد.. بطل الحرب والسلام.. ثم تقدم أغنية “أول ضربة جوية.. فتحت باب الحرية”!! وخلفاؤهم – أراجوزات التنوير – ذهبوا إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة, بعد رحيل “مبارك” وحاولوا استرضاء “الإخوان” وصولا إلى ادعاء أنهم أبطال “30 يونيو”.. وتمكنوا من إعادة “بقايا رجال هذه الجمهورية” ليشاركوا فى الحكم.. ويزعمون أنهم يبحثون عن حل عبر “الحوار الوطنى” الذى أخذ فيه “رجال مبارك” الصدارة!!
يجب أن نعترف بأن “الجمهورية الثانية” تمكنت إلى هذا الحد!!
صحيح أن هذا حدث.. ليس لمهارة وذكاء الذين يرفعون راياتها.. ليس بسبب التفاف الشعب حولها.. وليس لأن الشعب فقد الذاكرة تجاه ما قدمته له “الجمهورية الأولى” وانصرف عنها.. ولكن لأن الطعنات لثورة “23 يوليو 1952” جاءت من داخلها بدعم من خلف المحيط ووراء البحر!! إضافة إلى أن الذين يملكون أكبر قدر من ثروات العصر الحديث, كانوا دائما جاهزين لمواجهة أى محاولة تهدف لإعادة “زمن العزة والكرامة” لخطورة ذلك على الذين استراحوا على “سرير السلام”!!
يأخذنا “أنور السادات” فى حكاياته وقصصه المسلية.. فيقول: “أصدر هيكل كتابه.. الطريق إلى رمضان.. حاول خلاله أن يشكك فى نصر اكتوبر.. طلبته بالتليفون.. قلت له أننى قرأت ثلاث حلقات نشرتها الصحف.. هى تافهة.. سألته: بقى قرار طرد الروس أخذه لى السعوديين يا هيكل.. ما هذه التفاهة.. قال لى: الكتاب مدروس.. عندما تقرأ ستغير رأيك.. وقال أنه باعه بمائة ألف جنيه.. قلت له: يكفى ما قرأت, لكى أتأكد أنه كتاب تافه.. ألم أنبهك أكثر من مرة إلى أن الأمانة تقتضى ذكر الحقائق.. قلت له: الكلام الهايف دة, الذى تريد أن توهم به الناس أنك شريك فى الحكم.. وإذا كنت عاجز عن فهم أبعاد قرار طرد الروس.. تسكت أحسن.. أما أن تقول أن السعوديين أتخذوه لى.. فلأنك تريد أن تضعنى مع الروس ومع الأمريكان فى وضع غير أخلاقى.. وأنت تعلم أن كلامك عن صادق كذب.. قلت له: إسمع يا هيكل كل حاجة عندى ممكنة.. إلا الكذب والتزوير وتغيير الحقائق, لمجرد أن عندك قلما.. وأن عبد الناصر عمل منك شيئا.. عندك فرصة تكتب وتزور.. لا.. هكذا انتهت قصة هيكل معى”!!
يمكننى أن أصدق “أنور السادات” لو كان الكلام مترابط!!
الرئيس يطلب “هيكل” الذى يحكى لنا أنه كان مهزوزا أمامه.. أنه كان يهينه.. هو الذى عزله بقرار أصدره باعتباره ديمقراطى يحترم حرية الصحافة.. ثم يقول أنه اتصل به, لكى يقول له أن كتابه “الطريق إلى رمضان” كلام تافه.. ويذكر بنفسه أن “هيكل” أشعل غضبه حين قال له أن كتابه ثمنه مائة ألف جنيه.. هذا يعنى أن الرجل يفاخر بقيمة ما يكتب.. ثم يضيف.. عندما تقرأ ستغير رأيك.. والجملة لا تحتمل غير معنى واحد.. أنه أراد القول للرئيس إنك لا تقرأ.. إستفزته الجملة فكان رده: “يكفى ما قرأت لكى أتأكد أنه كتاب تافه”!! ثم يذكر ما يدعى أنه قاله من طرف واحد.. يؤكد استنكاره للكذب والتزوير.. يؤكد عجزه والذين حوله عن مواجهة قلم: “لمجرد أن عندك قلم.. وأن عبد الناصر عمل منك شيئا”!!
حين يملك الحاكم السلطة “وجهاز الإرسال” ويرفض الاستقبال.. يصدق “هرتلته” ويعتقد أن الناس تصدقه.. تلك هى أزمة “الجمهورية الثانية” وكل من حكموها!!
أعتقد أنه مهم أن أغادر مؤقتا كتاب “موسى صبرى”!!
يهمنى أن أتوقف مع “حلمى سلام” وهو واحد من كبار الصحفيين – قبل وبعد ثورة يوليو – ورغم أنه تعرض لظلم فادح, تمكن من الاحتفاظ بهدوئه ورصانة كلمته.. فهو لم يحصد ما جناه “هيكل” أو “موسى صبرى” وأمثالهما.. لكنه استمر يحاول.. كتب ما اعتقده وكان شاهدا عليه!!
أكتفى بواقعة واحدة دققها “حلمى سلام” فى كتابه “عبد الناصر وثورة يوليو”!
كان “حلمى سلام” صديقا لمعظم قادة “ثورة 23 يوليو” خاصة “عبد الناصر” و”السادات” و”عبد الحكيم عامر” بالإضافة إلى “محمد نجيب”.. وهو الذى تابع محاكمة “السادات” فى قضية اغتيال “أمين عثمان”.. وكان وراء كتابة ونشر مذكرات السادات “30 شهر فى السجن” على صفحات مجلة “المصور”.. لكن “السادات” أنكر معرفته به تماما.. ربما لأنه كان شاهدا على إهانة بالغة للسادات فى مكتب “عبد الحكيم عامر”.. والواقعة منشورة فى الكتاب.. لن أتعرض لها.. ربما لأنها لا تهمنى.. فما يهمنى أن “السادات” قال: “كل حاجة عندى ممكنة.. إلا الكذب والتزوير وتغيير الحقائق”!!
إضبط.. واقعة واحدة يرويها “السادات” ثلاث مرات بتفاصيل مختلفة!!
ذكر الواقعة فى العدد 54 يوم 6 نوفمبر 1977 بهذه الصيغة: “خطر لى أن أشتغل فى الصحافة.. فقد كنت صحفيا, والصحافة قريبة إلى نفسى.. فهى اشتغال بالسياسة أو اقتراب من ذلك.. وهى صناعة التعبير عن الناس والتأثير فيهم.. ثم إن عندى ما أقوله, فقد كنت معروفا فى ذلك الوقت.. فقد شاركت فى قضية أمين عثمان كما هو معروف.. وكتبت عنى الصحف الكثير.. ثم أن صناعتى هى الكتابة والخطابة.. أى صناعة الكلام.. وذهبت إلى صديقى إحسان عبد القدوس, وكان الكاتب السياسى الأول فى مصر.. قلت له: يا إحسان.. قال: نعم.. قلت: أريد أن أعمل فى روز اليوسف.. فكان رده: إن روز اليوسف لا تتسع لنا نحن الاثنين!!.. ذهبت إلى دار الهلال أسأل إن كان ممكن أن أعمل بها.. قابلت شكرى زيدان أحد صاحبى دار الهلال.. قال لى الرجل أنه على استعداد لأن أعمل فى المصور.. وأخبرنى أنه لا يوجد عندهم سوى كاتب كبير واحد هو فكرى أباظة.. وأنه فى حاجة إلى أن أكون إلى جواره”!!
يحكى “السادات” الواقعة نفسها فى كتابه “البحث عن الذات” بصيغة مختلفة, فيقول: “كنت عاطلا وأعيش فى بنسيون.. ذهبت إلى إحسان عبد القدوس, وكان استغنى عن عمله فى دار الهلال فأخذنى وقدمنى لأصحابها, واشتروا منى مذكراتى التى كتبتها فى السجن.. ثم طلب منى شكرى زيدان أن أعمل معهم بصفة دائمة.. طلب منى أن أحدد المرتب الذى أريده, وأخذت مكان إحسان فى إعادة الصياغة”!!
نسى “السادات” أنه كتب الواقعة قبل سنوات فى مجلة “الاثنين” بالعدد رقم 1043 يونيو 1954, وذكر فيما كتب: “فجأة دخلت صاحبة البنسيون.. قالت لى أحد أصدقائك يسأل عنك.. قمت استقبلته بالعناق والأشواق.. بعدها قال لى: يا شيخ دار الهلال بيدوروا عليك عشان تشتغل معاهم, بعد ما عجبهم ما كتبته فى مذكراتك.. أسرعت بالنزول معه وفى الطريق أخبرنى أنهم, يريدون أن يرسلوا أجرى عن الجزء المنشور فى المذكرات.. لكنهم لا يعرفون عنوانى.. تأكدت أنها فرجت.. إستدعيت تاكسى.. وقف بى أمام دار الهلال.. إستقبلنى البواب العجوز, وقال لى يا فندم.. النهاردة الأحد.. ما فيش حد لأنه يوم الأجازة”!!
واقعة واحدة فى موضوع بسيط.. يرويها “السادات” بثلاث طرق مختلفة.. كل منهم لا علاقة لها بالأخرى.. مع أن الحقيقة هى القصة الرابعة التى لم يذكرها.. لأن “حلمى سلام” كان يقوم بتغطية أحداث قضية اغتيال “أمين عثمان”.. إقترح على “جورجى زيدان” أن يطلب من الضابط المتهم – أنور السادات – كتابة مذكراته.. وافق “جورجى زيدان” بشرط عدم النشر قبل صدور الحكم.. حدد له مكافأة قيمتها عشرة جنيهات عن كل حلقة.. كتب بالفعل خمسة حلقات وكان يتسلمهم “حلمى سلام” خلال الجلسات ويعطيه المكافأة.. لكنه لم يشر لاسم “حلمى سلام” إطلاقا.. لأنه شهد “أنور السادات” يدخل مكتب “عبد الحكيم عامر” فإذا به ينفجر فى وجهه قبل أن يجلس.. صمت “السادات” وقال له: “سأمر عليك عندما تهدأ”!!
وضع “أنور السادات” أسس منهج حكم “الجمهورية الثانية” ومعادلات الحكم.. كما قدم نموذجا لكل من يحكم بعده.. فعندما تجلس على كرسى الرئاسة.. قل ما شئت.. لن يستطيع أحد تكذيبك أو مناقشتك.. وإذا حدث تستطيع أن تنفجر فى وجهه, أو تتهمه فى خطاب أمام الشعب بأنه يمارس “العيب” فى الذات الرئاسية.. وأقدم فعلا على وضع “قانون العيب” الذى أثار ضجة غير عادية وقت صدوره.. لكن “البرلمان” لم يقصر و”بصم” عليه كالعادة.. وبعد أن يرحل الرئيس, يعرف الشعب التفاصيل المفزعة.. وقد حدث ذلك مع “السادات” ثم “مبارك” وبعدهما “محمد مرسى” وكل منهم ترك حكم مصر بطريقة مذهلة!!
إذا غاب “البرلمان” وتم خنق “الإعلام” ومحاصرة “النقابات” وإبعاد “الجامعات” عن التفاعل مع المجتمع.. يحل الظلام وتفرض الشائعات نفسها كبديل للأخبار.. يصبح “النفاق” وظيفة مرموقة يتقاضى الذين يتم اختيارهم لشغلها ثمنا كبيرا.. ولنا أن نتأكد ونؤمن بضرورة الخروج من هذا النفق, بالذهاب إلى “الجمهورية الثالثة” التى أنفق الكثير فى التذكير بما سبقها.. لأننا لو لم نفهم الماضى والحاضر.. لا يمكن أن نذهب للمستقبل.. تلك هى “المؤامرة” بكل معنى الكلمة!!..