منوعات

نصر القفاص يكتب : فيلم “الفضيحة”!!

سنوات حكم “أنور السادات” كانت صاخبة.. لاهثة.. فهو اختار السير فى الاتجاه العكسى, للذى اتخذته “ثورة 23 يوليو” وساعده أنه كان واحدا من قادتها..

أراد تصفية ما كان, وبناء ما يرى أنه يجب أن يكون.. نجح خلال شهور قليلة فى ضرب العمود الفقرى للجمهورية الأولى – الصناعة والزراعة – وذهب إلى الصلح مع إسرائيل معتمدا على “واشنطن” التى وجدت فيه ما كانت تحلم به تجاه مصر..

دخل “المصيدة” واشترى “الوهم الغربى” ليجد نفسه عاجزا عن العودة للخلف.. وغير قادر على التقدم للأمام.. ظهر ذلك فى العام 1975 الذى كان “الأسوأ فى تاريخ مصر الحديث” كما قال “أحمد أبو اسماعيل” وزير المالية وقتها.. إهتدى “السادات” إلى أسلوب القفز إلى الأمام.. طرح ورقة “تطوير الاتحاد الاشتراكى” ثم أعلن صيغة “المنابر” كابتكار سياسى مصرى خالص فى مارس عام 1976, و”بصم” البرلمان” عليها!! وقبل نهاية العام نفسه – 11 نوفمبر – طرح تحويل “المنابر” إلى “أحزا

ب” وبسرعة “بصم” البرلمان.. وخلال احتفالات “عيد العمال” أعلن انتهاء مواثيق الثورة – الميثاق وبيان 30 مارس – ووصفها بأنها “خلاص بقت قديمة” وانتهى عمرها الافتراضى!!

فى الكواليس كانت تجرى عمليات اقتصادية مسمومة!!
محاولات فرض السرية على الإعداد لبيع مصر.. تعرضت للاختراق!!

فوجئ الرأى العام يوم 6 يوليو 1977 بجريدة “الأهرام” تنشر مقالا مذهلا كتبته الدكتورة “نعمات أحمد فؤاد” تكشف فيه ما وصفته بأنه “عملية نصب على مصر” لبيع تراثها الخالد..

ذكرت أن اتفاقا تم توقيعه مع نهاية عام 1975 بين الهيئة المصرية للسياحة وشركة متعددة الجنسيات رأسمالها 3,4 مليون دولار.. تقوم بموجبه بتنفيذ مشروعا قيمته 950 مليون دولار..

يمنح الاتفاق الشركة حق استغلال مساحة قدرها أربعة آلاف فدان فى “هضبة الأهرام” إضافة إلى أكثر من ألف فدان فى منطقة “رأس الحكمة” غرب الإسكندرية.. والعقد مدته 99 عاما كما فعل “دليسبس” فى امتياز “قناة السويس” وأكدت كاتبة المقال أن العمل بدأ بالفعل على الأرض بتخطيط لإقامة فيلات وفنادق وقرى سياحية وحمامات سباحة مع مطار خاص بالجيزة.. وآخر بالإسكندرية.. وذكرت أن ممثل الشركة “بيتر مانك” ليس أكثر من سمسار ومغامر تم إشهار إفلاسه عام 1967, فترك الولايات المتحدة الأمريكية إلى “غينيا” وألمحت إلى عمولات ورشاوى تم دفعها لمسئولين كبار لإبرام العقد!!

بدا من المقال أن الكاتبة – نعمات أحمد فؤاد – ضمنته معظم ما امتلكته من معلومات, على أمل النشر الذى لم تتوقعه.. لكن مسئول صفحة الرأى لم يقرأ وأجاز المقال, الذى انقلبت بعده الدنيا.. ففى المقال نفسه.. ذكرت أن “طبخة” أخرى أوشكت على النضج لبيع “هضبة بولاق” التى تغير اسمها إلى “مثلث ماسبيرو” وأن تنفيذ المشروع يتوقف على إجلاء الحكومة لسكان المنطقة البسطاء.. وأنه سيقام فى المنطقة أبراج وفنادق وعمارات للأثرياء من المصريين والعرب!!

عشرات السنوات تمضى.. وأصبحنا نرى “هضبة بولاق” وما يحدث فيها باسم “مثلث ماسبيرو“!!
عشرات السنوات لم تجعل “رجال المال” والذين خلفهم ينسون “هضبة الأهرام”!!

ما حدث.. ويحدث فى مصر.. ليس صدفة ولا مشروعات هدفها التحديث.. وتحمل صفحات “الأهرام” أصل الحكاية.. بمجرد نشر المقال إشتعلت الجامعات غضبا, يتقدمها أساتذة “الآثار” وكليات الهندسة والحقوق.. أشعلت النقابات بقيادة “المحامين” اللمبات الحمراء, وراحت تدق نواقيس الخطر.. إنعقدت الندوات والمؤتمرات..

لم تجد الحكومة التى كان يرأسها “ممدوح سالم” غير إعلان التراجع عن مشروع “هضبة الأهرام” لأن الرجل كان يحاول تبريد نيران 18 و19 يناير 1977 التى وصفها “السادات” بأنها “انتفاضة حرامية” وتم الإعلان عن هروب المستثمر السعودى الذى كان يتفاوض على “مثلث ماسبيرو” مضحيا بما دفعه من إكراميات ورشاوى!!
شهور قليلة مضت على إرجاء تنفيذ مشروعى “هضبة الأهرام” و”هضبة بولاق”!!

ترتفع أصوات ضد أن تنفق الدولة على “الثقافة” و”الإعلام” بحجة أن إدارتهما غير رشيدة.. فالمسرح والسينما لا يربحان.. هيئة السينما وهيئة المسرح اللتان ترأسهما “نجيب محفوظ” و”على الراعى” يمثلون الزمن المطلوب التخلص من آثاره – الجمهورية الأولى – ويفاخر حزب “فضة المعداوى” بجهله ويستعرض قدراته فى ممارسة “الخيانة على أنها وجهة نظر” ليتم تفكيك الهيئتين..

وتتسرب أخبار – بدأت على أنها شائعات – حول اتجاه لبيع التليفزيون وأرشيف السينما لمستثمر سعودى..

كادت الشرارة تشعل المثقفين.. خاصة بعد نشر ما حدث فى سهرة بأحد ملاهى شارع الهرم.. قيل أنه كان احتفال بالاتفاق المبدئى على الصفقة.. وتكشف أن هذا حدث مطلع عام 1977, وتم تأجيل الإعلان حتى تهدأ الأحوال عقب “انتفاضة يناير” ثم كانت السهرة التى ذاعت بعدها بأكثر من عام.. حضرها المستثمر السعودى – الشيخ صالح كامل – ممثلا لمجموعة من المستثمرين مع قيادات وزارتى الثقافة والإعلام.. إنتقل الملف إلى “البرلمان” بعد ضجة – فضيحة – وجدت من يتصدى لها.. قيل أن ابن وزير الإعلام – عبد المنعم الصاوى – طرفا فى العقد بمبلغ 250 ألف جنيه رغم حداثة تخرجه.. إتهمت الحكومة الشيوعيين بتخريب “استراتيجية الثقافة” التى تتجه للانفتاح على رؤس الأموال العربية والأجنبية!!

كان “الانفتاح” الذى أخذ وضع “الانبطاح” شرسا بقوة داعميه!!

بدأ البيع مختالا بجهله, قبل أن يتسلح بألاعيبه.. لكن “مسيرة البيع المظفرة” تمضى بخطوات بطيئة أحيانا.. ثم تسرع فى أحيان أخرى, حسب نصائح “الرعاة” الذين يريدون شطب “العزة والكرامة” من الذاكرة الوطنية.. وقد قالها “جون ماكين” كسيناتور أمريكى فى أعقاب “30 يونيو 2013” ويسمى الدستور ما حدث خلاله “ثورة” بوضوح: “لن نسمح بظهور عبد الناصر جديد فى المنطقة”!!

قاتل “يوسف إدريس” ومعه “سعد الدين وهبة” والفنانة “نادية لطفى” مع ماجدة الصباحى” ضد الصفقة المسمومة لبيع السينما والتليفزيون.. قال “يوسف إدريس” بوضوح: “إذا كنتم قد بعتم هضبة الأهرام وهضبة بولاق – مثلث ماسبيرو – نرجوكم لا تبيعوا المخ.. نريدكم أن تحافظوا على عقل مصر وفكرها وفنها بعيدا عن السيطرة والتحكم الأجنبى”..

وصرخت “نادية لطفى” فى وجه وزير الإعلام داخل البرلمان قائلة: “يا سيادة الوزير.. لقد بعتونا وانتهى الأمر”!! ورغم أن البرلمان صفق للوزير.. فقد صدرت تعليمات بصرف النظر مؤقتا عن المشروع.. وبعد سنوات تم التنفيذ على مراحل.. والنتيجة نراها دون حاجة إلى شرح أو توضيح.. وخلال كل مرحلة من مراحل تنفيذ منهج “الجمهورية الثانية” يظهر وزراء ونواب.. يختفى وزراء ونواب.. والكل “يبصم” بدعم “أراجوزات التنوير” الذين كانوا فى البدايات أكثر مهنية وذكاء, حتى وصلنا إلى “جامعى أعقاب السجائر” الذين يرفضون شرف نيل “شهادة محو الأمية”.. فقد تعبوا على جهلهم وأصبحوا يجنون من ورائه الملايين!!

الذين يقرأون التاريخ يعرفون أن المأساة قديمة – متجددة!!

الذين يعرفون معنى كلمة “وطن” يدفعون الثمن فادحا.. والذين يبيعون “الوطن” وصفهم “جلال عامر” بأنهم “الذين هبروا” وهؤلاء فى النعيم يرفلون.. أما “الذين عبروا” فقد اكتفوا بنيل شرف الدفاع عن الوطن.. ومن بقى منهم على قيد الحياة – أطال الله أعمارهم – يقاومون اليأس والإحباط باستعراض شموخهم على اعتبار أنه قاعدة يقوم عليها “التنوير” كما علمنا “جلال أمين” بما تركه لنا من فكر!!

يمارس المشاركون فى “عمليات تزوير التاريخ” إعلاما ساقطا بعد إخفاء الإعلام.. فنونا منحطة بعد تغييب الفن.. ثقافة جاهلة بعد خنق الثقافة.. لكنهم يجنون الفشل الذريع, الذى عبرت عنه “انتفاضة يناير 77” ثم “تمرد الجند 86” مرورا بنضال “نقابة الصحفيين” ضد القانون 93 لسنة 1995.. ثم ما حدث فى “نقابة المحامين” وأمام “نادى القضاة” وعلى “سلم الصحفيين” الذى انتهى إلى “ثورة 25 يناير” التى سرقها “الإخوان”.. ثم “ثورة 30 يونيو” وحاصرها الفساد.. واستمر منهج “الجمهورية الثانية” قادرا على التحدى وفرض نفسه.. ليكرر “العام الأسوأ 1975” نفسه عندما وصلنا إلى “العام 2022”.. ليبدو أن مصر ترفع “الراية البيضاء” كما أبدع “أسامة أنور عكاشة” قبل أن يغادر دنيانا!!

يحاول “أنور السادات” الخروج من مأزق 18 و19 يناير, فيدعو إلى استفتاء يوم 10 فبراير 1977 على قانون أسماه “حماية الأمن والمواطنين” وكل نصوصه تنسف ادعاءات الديمقراطية.. ينص القانون على عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من دبر أو شارك فى تجمهر.. يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة العاملون الذين يضربون عن العمل.. إضافة إلى مواد أخرى مأخوذة من القانون الأسبانى فى عهد “فرانكو” ليجعل بلدا يدعى أنه ديمقراطى يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة من يمارسها!!

ثم يكتشف أن هذا الاستفتاء والقانون لم يحققا له ما أراد.. يقرر الدعوة إلى استفتاء آخر يوم 21 مايو 1978 على قانون “السلام الاجتماعى” لمعالجة ما حدث حين تكشفت فضائح بيع “هضبة الأهرام” و”هضبة بولاق” و”السينما والتليفزيون” واعتبر أن الغضب ضدهم تهدد الأمن والمواطنين..

قاطع الشعب الاستفتاءات, لكن وزارة الداخلية تعلن موافقة ساحقة على القوانين التى تقطع كل لسان وتغمى كل عين وتعاقب كل أذن تسمع!!

يظهر التمرد فى “البرلمان” حين تحرك “كمال الدين حسين” نائب دائرة “بنها” وكان زميله فى مجلس قيادة الثورة, وشغل مناصب الوزير ونائب رئيس الجمهورية.. أرسل إليه يحذره من الدعوة لاستفتاءات غير دستورية..

تتحرك الأجهزة الأمنية وتنظم عمل النواب تحت قبة البرلمان للتصويت على إسقاط عضويته فى البرلمان..يحتج الشيخ “عاشور نصر” على الرئيس خلال إلقاء خطاب فى البرلمان.. يتم تنفيذ سيناريو إسقاط عضويته بأغلبية ساحقة.. ثم يتعرض “أبو العز الحريرى” للمصير نفسه.. وبعده يتم إسقاط عضوية “كمال أحمد” لاحتجاجه على اتفاقية “كامب ديفيد”.. فيقول “السادات” للنواب أمام عدسات التليفزيون: “إرموه.. إرموه برة”.. لتنشر صحيفة “الديلى ميرور” تقريرا يقول كاتبه: “الرئيس المصرى أنور السادات يتصرف كأنه ديكتاتور, يريد معاقبة كل من ينتقد سياساته.. وكأى متسلط يحاول اتهام معارضيه بأنهم أعداء الأمة”!! لكن “ماكينة الإعلام الغربى” الضخمة تتولى التغطية بنشر تقارير وموضوعات مع صور لبطل الحرب الذى يصنع السلام.. تتجاهل غضبا, إنقلب إلى صراع..

ثم تحول إلى مواجهة بين الرئيس واليسار الذى يمثله “حزب التجمع” وكذلك مع اليمين الذى يمثله “الوفد الجديد” بينما “جماعة الإخوان” تمارس الانتهازية ذاتها التى مارستها منذ نشأتها.. تحمى ظهر “السادات” وتدافع عنه.. وإذا وجدت أن المعارضة ضارية تلتزم الصمت.. تطالبهم الأجهزة الأمنية بخوض معركة النظام ضد اليسار واليمين.. يستشعرون الحرج لعجزهم عن مواجهة “الجماعة الإسلامية المفقوسة عنهم” خاصة وأنها كادت أن تخرج عن طوعهم.. يمارسون ما تم وصفه “المعارضة المستأنسة” مع غيرهم من الذين يحرصون على أصوات ناخبيهم فى دوائرهم!!

تضغط الأزمة الاقتصادية على “السادات” وحكومته.. تتشاغل عنه “واشنطن” ودول الخليج.. ترى إسرائيل أنه حقق لها ما يتجاوز أحلامها.. تركوه يجتهد لإنقاذ نفسه ونظامه, وانصرفوا بحثا عن الجسور مع القادم المحتمل..

ثم كان ما حدث فى 6 اكتوبر 1981.. ليتولى “حسنى مبارك” قيادة البلاد.. ويطبق أسلوب “التبريد” للأحداث التى بلغت ذروتها باغتيال الرئيس!! يتغير الأسلوب ويبقى المنهج واحد.. لذلك ستجدنى أغوص فى “المنهج” وأعبر على “الأساليب” بسرعة لأننا وصلنا إلى مفترق طرق.. أصبح “الاختيار” إجبارى بين منهجين.. كل منهما ترك آثاره – إيجابا وسلبا – على جسد وطن ومجتمع!!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى