د. محمد عبدالله الخولي يكتب: تفكيك البنية السردية في رواية “السيدة الكبرى”: ديالكتيك الظاهر والمضمر- تمثلات الوعي وصراع الأنوات

تنبني رواية “السيدة الكبرى” لـ شيرين سامي على نواة الشخصية الرئيسة: “اعتماد الرميكية”، هذه الشخصية المعقدة، ليس على المستوى الإنساني فحسب، ولكن على مستوى التركيب البنيوي لمعمارية السرد، ومن هنا تصبح شخصية “اعتماد” محورَ الحكاية، ولكنها ليست الغاية المنشودة في فضاءات السرد لعالم الرواية؛ فمن وجهة نظرٍ بنيوية: تقوم الشخصية في الرواية بوظيفة عضوية، أو بوظيفة الحامل للمضامين والرؤى، فهي الحاملة للموضوع الذي تدور في فلكه الرواية؛ إذن، على القارئ أنْ يتخطى حدود الشخصية إلى فضاءاتها المنطمرة في بنية الرواية.
ومن وجهة نظر سيميائية، تصبح الشخصية المحورية “اعتماد الرميكية” علامة سيميائية متوزعة على أنماطها “البيرسية” الثلاثة: ممثل، موؤل، موضوع. فيحتمل من القارئ الواعي أن يجعل الشخصية المحورية ممثلا لموضوع الرواية – ولم نزل في طور اكتشافه -، وبناء عليه، تكون الشخصية ممثلًا: (جزءًا من العلامة السيميائية الكبرى).
ويحتمل من القارئ، أن يجعل الشخصية المحورية مؤولًا سيميائيًا يربط بين ممثل العلامة وموضوعها، فتكون البنية اللغوية في فضاء الرواية ممثلا، يشير إلى موضوع ما، وتكون الشخصية المؤول (الداخلي)، الذي يربط بين الممثل والموضوع. وربما تكون الشخصية (من وجهة نظر أخرى)، موضوع الرواية.
إذا اعتملنا آليات التأويل – على المرتكزات السيميائية السابقة -، فنحن أمام ثلاثة موضوعات: مباشر، عندما يقف فعل القراءة عند حدود الشخصية، بوصفها موضوعًا. دينامي: عندما ينفتح الموضوع (المباشر) على فضاءٍ أوسع؛ فتبدأ حركة “السيميوزيس” داخل العلامة مشكلة/ منتجة أكثر من موضوع في حركة دينامية لا تتوقف إلا بفعل القراءة؛ فعندما يتخير القارئ واحدًا من هذه الموضوعات، يصبح هذا الموضوع – بالنسبة لقارئ معين – موضوعا نهائيا، بينما يتحول الأخير، إلى موضوع (ديناميٍ) لقارئ آخر؛ إذن، ليس هناك حدود بعينها تتوقف عندها عملية التأويل.
إنَّ البنية السردية لرواية “السيدة الكبرى” لـ شيرين سامي- بنيةٌ معقدةٌ، تلزمها عملية من التفكيك الواعي؛ بغية استظهار مضمراتها من مضامين ورؤىً وقصديات؛ حيث ضمَّنت الساردة كلَّ ما سبق في فضاءات الرواية، بعد أنْ تخطَّت الأخيرة الحكايةَ إلى سردية مجازية تخاتل الواقع الحكائي للشخصية، وتنظر إليه من زاوية مختلفة، من خلالها يرى القارئ التاريخ الأندلسيِّ والمصريِّ، ليس من خلال مادة التاريخ الصلبة، التي ليس من شأنها أنْ تعالج الجانب النفسي أو تستظهره، وليس من شأنها أن تسلِّطَ الضوءَ على الهامش، أو تروي لنا مرويات عن العامة والمطحونين الذين يعانون شظف الحياة في خضم الصراعات الدموية على السلطة.
أعتقد أنَّ الروائية “شيرين سامي”، لم تفكر في إعادة تمثيل التاريخ الأندلسيِّ-المصريِّ، مرة أخرى، ولكنها اتخذت من التاريخ نواة سردية تنشأ على قاعدتها الرواية، ولكنها – ربما، دون قصد منها أو قصد-، أعادت تمثيل التاريخ الأندلسيِّ وقت انهياره، كاشفة عن أسباب الانهيار وتداعياته.
بعد هذا العرض، تتجلى لنا شخصية ” اعتماد الرميكية”، بوصفها شخصية محورية، ويتمظهر التاريخ بوصفه نواة سردية ومرتكزا تنبني عليه الرواية. إنَّ زمن الحكاية الذي يخص الشخصية – بوصفه زمنا تاريخيا خاصًا -، تحكي الروائية في ظلاله التاريخ العام الذي تنسل من سرديته حكاية اعتماد الرميكية، فنحن في جدلية تاريخية بين الخاص والعام.
تفكيك البنية السردية في رواية السيدة الكبرى:
يحيل العنوانُ “السيدة الكبرى” القارئَ إلى سيدة تمتلك سلطةً لا ندري عن كنهها شيئًا، ولا عن أسباب وصولها لهذه السلطة، ولا ندري حدود الأخيرة وحيزها. أما متن الرواية منذ البداية يشير إلى فتاة مشردة، سرقت من أهلها في رحلتهم من مصر إلى الأندلس، وتحولت من الحرية إلى الرِّق أكثر من مرة، فكلما اتسعت الدنيا أمامها في فضاء حر، وقعت في أسر أو رقٍّ يضيق عليها هذا الفضاء.
كانت طفولة “اعتماد الرميكية” حاملة لجوهر هذه الشخصية وتطلعاتها تجاه الحرية، حيث خرجت هذه الشخصية – في طفولتها – عن النسق المعيشي المعتاد في بيئتها المصرية، تلك البيئة التي تحتفظ لنفسها بنسق حياتي خاص شكلته التقاليد الأسرية وصنعه العرف المجتمعي العام. وفي بحثها عن الحرية، وحبها للمغامرة عرضت نفسها للحبس في الحمام ثلاث مرات في مواقف مختلفة.
فعندما مسها شيطان الشعر – وهي في الحادية عشرة من عمرها – لبست ثياب أخيها “حسين” لتحضر حفلا شعريا، للشاعر بهاء الدين بن الوليد الدمشقي، حيث يمتنع على النساء حضور مثل هذه الاحتفالات، ويمنع العرف المجتمعي الاختلاط بين الرجال والنساء في محفل/مكان واحد. عندما شغفها الشعر حبا، خرجت على التقاليد العرفية، وارتدت ثياب أخيها، وحضرت الحفل، ولكن سرعان ما افتضح أمرها، فحبست ليلة بطولها في حمام النساء في البيت. إذن، طفولة “اعتماد” كانت ترهص بشخصية مغامرة متحررة من كل قيد وشرط.

كانت شيرين سامي – عن طريق التوازن السردي – تستدعي طفولة “اعتماد” في مصر، وتذكر من مواقف طفولتها ما يتواءم مع فعلها في الحاضر الحكائي، وهذا ما أحدث نوعًا من التوازن بين الماضي والحاضر وتقاطعهما مع الزمن السردي، ارتدت “اعتماد” ثياب الرجال أكثر من مرة في رحلتها الأندلسية، وكأن ما يحدث في حاضرها صدى للذاكرة الماضوية لها. إذن، نحن أمام فتاة تحاول – منذ الصغر- أن تُشَكِّلَ ذاتها وفق رؤيتها للحياة وشغفها بالحرية، ولذا، عندما تعرضت للخيبات أكثر من مرة – في الأندلس – كانت تواجه هذه الانكسارات/ الخيبات بصبر الرجال وعزم ذوي الهمم، فلم تنكسر في رقها وأسرها، ولا في تخلي الصديق والحبيب عنها في أحلك لحظاتها، بل كانت تمضي في طريق تحققها الذاتي قدمًا، ولم تضعف، ولم تهن، بل كانت عصية على كل الانكسارات التي واجهتها في ماضيها وحاضرها.
لم يكن من بدٍّ أن تمرَّ اعتماد الرميكية بهذه التجارب المضنية حتى تصل إلى تلك الرتبة العلية: “السيدة الكبرى” زوج المعتمد على الله محمد بن عبَّاد.
فنحن أمام شخصية معقدة تتكشف لنا حقيقتها، وتتجلى لنا ماهيتها، عن طريق استقراء زمنين مختلفين: الماضي والحاضر، حيث يتأول الأخير بالأول، ولك أن تقول: أنَّ هذه امرأة صنعتها التجارب، وشكلتها الانكسارات، وتبدَّى نبلها على مرايا الزمن، حتى وإن اتهمتها السردية التاريخية العربية بما ليس فيها، حيث تميل بعض الرؤى، إلى أنّ الانتكاسات التي تعرض لها محمد بن عبّاد كانت اعتماد الرميكية سببا فيها. بينما ترى السردية التاريخية الإسبانية، أنَّ اعتماد الرميكية نموذج للنبل والوفاء.
تعدد الأصوات وتكثيف الرؤية النسوية:
تحتشد الرواية بتعدد الأصوات، ونعني بالأخير الوعي – وفق ما قاله ميخائيل باختين في المبدأ الحواري – حيث تمثل كلُّ (أنا) من الأنوات وعيا خاصا بها، فليس المقصود من تعدد الأصوات تعدد الشخصيات في بنية الرواية، ولكن الصوت = الوعي.
إنّ العملَ الروائي الذي يُكتب له الخلود- كأعمال تيشخوف ودوستويفسكي – يرتكز على أمرين: الأول، تعدد الأنوات/الوعي داخل البنية، بحيث يتعرف القارئ على وعي الــ (أنا) من خلال تداخله مع وعي الــ (أنت)، فيكون الأخير سببا من خلاله يتجلى لنا الأول، بينما تنفرد الــ (أنا) مهيمنة على بعض الروايات، دون ظهور أو تجلٍّ للآخر، وهذا يجعل الرواية بعيدة عن الموضوعية، فتشظي وعي الــ (أنا)، دون غيرها في بنية الرواية يجعل السارد محل اتهام أمام قارئ يعي كنه الرواية، وفضاءات العالم السردي، فمن حق الـ (أنت – الآخر)، أن يتكلم ويتجلى وعيه، وتتمظهر رؤيته في العالم السردي؛ ليتعرف القارئ على الوعيين من خلال وجودهما – معًا – في بنية واحدة.
في”السيدة الكبرى” تتناحر الأنوات التي تمثل الخطاب النسوي في الرواية، وكانت الساردة تطرح جميع الرؤى – دون تحيز منها -، حيث تكاشف شيرين سامي القارئ بكل الرؤى المنطرحة في عالم السيدة الكبرى، وهذا ما فعلته صراحة عندما عرضت لوجهتي نظر مختلفتين، وجعلت لكل وجهة نظرٍ عنوانا مستقلا، وهذا الصنيع في تشكلات البنية، يدل أن شيرين سامي تكتب بوعي. فقد عرضت وجهة نظر “اعتماد الرميكية” في صديقتها قمر، وقد جعلت لذلك عنوانًا فرعيا في الصفحة رقمـ 240 وسمته بــ “حكاية قمر كما روتها اعتماد”، فتقول: “ما الذي كان ممكنا أن أفعله لأنقذ صديقتي من شعورها بالذنب إلا أنْ أحبها أكثر! أصبحت تابعها الذي يتمنى أن يحقق لها طلبا. ووضعتني في خانة صديقة البطلة، كل الحكايات تدور حولها، ورضيت بهذا الدور لأنني لم أكن أحب أن أناقش حياتي، حتى ملَّت هي مني كما تملُّ من كل فتى تصاحبه.”
وفي (ص: 237)، وضعت شيرين سامي عنوانا فرعيا تعرض فيها وجهة نظر “قمر” وهي تروي حكايتها للمعتمد، وسمته بـــ “حكاية قمر كما حكتها للمعتمد”، فتقول: “هناك بنت أعدم أبوها أمام عينيها وبمعرفتها، وتعيش بذنب موته إلى الآن، ثم فُقدت من أهلها وضاعت في بلاد بعيدة. بيعت على الأرصفة لتكون جارية، واجهت هذه البنت أشياء تقتل الحياة في قلب عصفور صغير، كل ما يرغب فيه هو الطيران وحيدًا والبقاء حيًّا. إنَّ سوادَ العالم كله كان يمكن أن يحولها إلى مجرمة، ولكنها اختارت أن تواجه شقاءها بالغناء، وأن تجعل الموسيقى تتحدث عنها، والألم يخرج على شكل كلمات وألحان من فمها.”
إنْ لم تفعل شيرين سامي هذا التداخل بين الوعيين في البنية؛ لظُلِمَتْ “قمر”، فمن المتوجب على السارد أن يمنح كلَّ شخصية حقها في الرد والتعبير، وإن لم يفعل فقدت الرواية رونقها، وحالئذ يصدر المؤلف حكمًا بالإعدام على الآخر، الذي منع حق الدفاع عن نفسه أمام القارئ.
إنَّ تعدد الأصوات في البنية يجعلها قادرة على طرح الأسئلة ثم الإجابة عنها، حتى وإن كانت الإجابة مغيبة في فضاءات السرد. أما الأمر الثاني الذي يمنح الرواية الخلود، هو قدرة السارد على فتح معبر من خلاله يتم التواصل النفسي/الشعوري بين القارئ والشخصيات داخل الرواية. فالتواصل في عالم الرواية له مستويان: الأول، أن يتحقق التواصل بين القارئ والسارد، وبناء عليه، تتكشف المرتكزات النصية والقصديات للقارئ، وإن لم يتحقق المستوى الأول من التواصل فقدت الرواية حياتها؛فانعدام التواصل يعني إخفاق المؤلف في صنع شفيرات نصية تضمن نجاح عملية التواصل بين طرفي المرسلة النصية.
أما الثاني، والذي أعده النمط التواصلي الأرقي: هو تواصل القارئ مع الشخصيات داخل الرواية، وهذا ما يجعل بعض الروايات تصل إلى العالمية، وهذا النمط التواصلي، لن يتحقق إلا إذا أصبحت الشخصيات المحورية داخل الرواية معبرة عن الذات الإنسانيّة في عموميتها؛ ففي رواية “السيدة الكبرى” استطاعت شيرين سامي أن تحقق هذا التواصل الإنساني بين القارئ والشخصيات، فكل من يمارس فعل القراءة التأويلية على جسد رواية “السيدة الكبرى” يتجاوب شعوريا وإنسانيا مع اعتماد الرميكية والمعتمد على الله محمد بن عباد.
تقنيات السرد وتمثلات الذاكرة في السيدة الكبرى:
من أبرز التقنيات السردية في رواية “السيدة الكبرى”، التقاطع الزمني بين الماضي والحاضر، ولكن اللافت للنظر في عملية التقاطع بين الزمنين التناوب بينهما، حتى أصبحت البنية السردية كتلة متوازنة بين الماضي والحاضر. ولعل السبب في ذلك حالة التيه التي تعانيها الشخصية المحورية وهي تبحث عن ذاتها وأهلها ووطنها وهويتها الإنسانية، فإذا كان الحاضر صدى للماضي، أو كان الأخير إرهاصًا لهذه الشخصية، فحالة التيه التي لازمتها منذ طفولتها، تعيد الذات تأويلها عن طريق الحاضر ومآلاته، فكل ما التبس عليها معرفته في طفولتها، تعيد الذات الواعية اكتشافه – مرة أخرى – على مرايا الحاضر. إنّ نبوءة العرَّافة دليل قاطع على ذلك، حيث قالت: ” عليك أن تتوهي حتى تصلي. في التيه سلوى لكل الآلام، وفي الخلاء خلاص وصفاء للقلب، هناك حيث السماء بعيدة، تجدين من يسمع ويرى ويطيِّب الخاطر.” فالتيه حالها ووسيلتها للوصول، وبقدر التيه تتحقق الذات من هويتها، والوصول إلى الهوية يتوجب التأويل، حيث تستقرئ الذات حاضرها بماضيها، وتتفكك شفرة الأخير بالحاضر، فالذات/الشخصية منشطرة بين زمنين تتجلى في تقاطعهما حقيقة اعتماد الرميكية، فالتقاطع الزمني في بنية الرواية ليس ترفا فنيا أو مستوى جمالي فحسب، ولكنه الضرورة التي اقتضاها حال الشخصية المحورية.
تحولات الراوي في رواية السيدة الكبرى:
ظلَّ الراوي – كما في أغلب حالاته – منطمرا في البنية، متماهيا مع السارد، فقلما يتبدَّى ظهور الراوي في عمل سردي، ولذا، نعد دوره في البناء الروائي دورا وظيفيا، وبعض السُّرَّاد يمنح الراوي دورا تشاركيًّا- بتشكلات مختلفة – وفق ما تقتضيه درامية الحبكة التي يتخيرها المؤلف.
في “السيدة الكبرى” اعتملت شيرين سامي نمطًا مغايرا، انبنى على عنصر المفاجأة، فبعد انطمار الراوي في البنية وتماهيه مع السارد، يتمظهر أمامنا، بوصفه شخصية مشاركة في بنية الحكاية، وقفز الراوي من الهامش – وهو يمارس فعل الحكي – إلى متن الرواية، وأصبح جزءًا لا يتجزأ منها، بل شخصية عضوية تؤدي دورا بنيويا في تشكلات النسق الروائي، ففي (ص: 226) تتجلى لنا بثينة ابنة السيدة الكبرى، بوصفها الراوي الذي تخافى عن القارئ فترة طويلة مستقطعة من الزمن السردي للرواية، وهي بذلك – أعني بثينة – تمارس فعلين في معمارية الرواية: الأول، فعل الشخصية التي قفزت من الهامش إلى المتن، وأصبح لها دور أصيل في اكتمال النص. أما الثاني: فهو دور الراوي الذي منح الرواية حبكة درامية متقنة انبت – دون تعسف – على عنصر المفاجأة، الذي أضفى على الرواية بعدا جماليا مخاتلا.. فتقول: “في هذه الليلة سقطت اعتماد مريضة، وأحضروا لها الطبيب الذي أكد أنها أخيرًا وبعد ثلاث سنوات أصبحت حبلى، بي أنا بثينة.”
الفضاء الروائي وتحولات المكان:
من الحيز الحميم إلى فضاءات العالم.. هذا حال اعتماد الرميكية، التي غادرت بيتها- وطنها فظلت تعاني الشتات طوال رحلتها. في تلك الرحلة أعادت الرميكية تعريف العالم، وأدركت كنه الأماكن مكتشفة سرها.. شاهدة على تحولاتها. أصبحت العودة إلى بيت الطفولة غايتها، بعد أن حسبته ضيقا على أحلامها، فتراءى لها في غربتها ملاذًا وملجًأ وهوية. ضاق قصر الخلافة الأندلسي- مع فخامته الأسطورية- عليها، ضاق بها، وهي سيدة القصر الأولى.

في رواية “السيدة الكبرى” لــ شيرين سامي أصبحت الأماكن مرايا تنعكس عليها شعوريات الذات، ولذا، استغرقت الروائية في وصف هذه الأماكن بغية استغوار حقيقتها، كما تجلت للسيدة الكبرى. كانت الغاية المنشودة من تنقلها وترحالها الوصولَ إلى أهلها. فمن بيت ابن كليب تاجر الرقيق، إلى الحفرة التي التقت فيها بالشيخ الصوفي ابن الحسن، ثم إلى بيته، ومن بعده رحلتها إلى الصحراء بصحبة أبي بكر بن عمَّار، ثم إلى بيت بائعة الدجاج، إلى بيت الرميكي، ثم قصر ابن عباد، حتى استقر بها المقام في قرية إغمات بالمغرب حيث المنفى.
ضاقت على الرميكية كل الأماكن والبيوت، فلم تشعر براحة ولم يستقر بها المقام في منزل من هاتيك المنازل، فبيت الشيخ الصوفي ابن الحسن الذي كان حصن أمان لها، سرعان ما ضاقت به وضاق بها، وهي تبحث عن كينونتها وحريتها، وتأبي أن يكون لأحد سلطان عليها، فخرجت إلى حيث لا تدري، بصحبة شاعر صعلوك لا تعرف عنه شيئًا. روحها جبلت على المغامرة، أنثى صنعتها التجربة، شكلتها كما تشكل النار الحديد، لم تعرف الخوف، ولم يثنها عن مرادها شيء، ولذا، ضاقت عليها البيوت والقصور، ولم تسعها سوى السماء، ولذا كانت تطيل النظر إليها، وهي تناظر عالمها المفقود هناك بين النجوم البعيدة.. فتقول: “نظرت اعتماد إلى السماء فوجدت أجمل لون رأته في حياتها، لون بنفسجي أزهى من الورد وأكثر اتساعًا من الصحراء. دققت النظر فشعرت بنفسها ترى حبيبات بنفسجية تطير وتتقافز، كأنَّ هناك أطيافًا تمر بسرعة غير ملحوظة تزرع هذا الفضاء بالبنفسج فوق النور، تساءلت إن كان هذا اللون حيًّا أم أنَّ هناك حياة خلف السماء. تداخلت السحب وتشرَّبت اللون بدرجات متعددة، بينما تشربت اعتماد أيضًا هذا الجمال على مهل.”
في ليلة زفافها على محمد بن عبَّاد كانت المفارقة العجيبة، فبعد أن تمنَّت دخول القصر، وكانت تعد الليالي والأيام، سمعت أول جملة هشمت مرايا حلمها: ” ما أنت سوى جارية أطلق سراحها وتزوجها الأمير.” ليس هذا فحسب، ولكنها رأت رؤوسًا معلقة على أسوار الحديقة، رؤوس الخارجين على المعتضد، حتى الشيخ/الفقيه الذي أسدى إليه نصيحة قتله وعلق رأسه، وحالئذ أضحى القصر على غير ما توقعته اعتماد، واتخذ فضاءً مغايرا، وعن طريق التوصيف السردي – الذي برعت فيه شيرين سامي – تقول: “لاحت أسوار قصر المعتضد من بعيد، تظللها الأشجار الكثيفة متهدلة الأغصان التي تطبع على الصورة كآبة وعجزًا. من جهة الشرق تمتد مروج برتقالية قاحلة، ومن جهة الغرب يمر نهر وحيد ضيق حوله زرع متآكل ورياض مهملة. في السماء تكاثفت الغيوم معلنة عن رغبتها في الصراخ والبكاء، لكنها انتظرت قليلا احترامًا للعروس التي تخطو بداخل القصر لأول مرة. تهمس إليها حنة التي ترافقها من بيت الرميكي: الحروب شوَّهت المكان.” لم تكن اعتماد هي التي تضيق بالأماكن وحدها، فالأماكن – هي الأخرى – كانت تمارس عنفها عليها تمجها وتلفظها، فلم تألف اعتماد أيَّ مكان يهدد حلمها الإنساني، فهي امرأة متوثية مغامرة، تعشق الحرية والتحرر من قيود المكان وأشراطه. حلمها بيت طفولتها، ومبتغاها أن تخرج عن كل قيد وشرط، فهذا الخروج يمثل حقيقة ذاتها. عاشت بالأندلس ما يربو على الثلاثين عاما ولم تألفها، وهذا ما نصت عليه اعتماد في رسالتها لابن الحسن: ” تمنَّ لي الخير في حياتي الجديدة، لأنني خائفة، لا أحب القصور ولا الملوك ولا الأندلس.”
ظلت مصر هويتها الحقيقية الضائعة التي تزورها -دائما – فتشم عبقها وترى صورتها في ثوب كتان أو دمور، أو في إعداد أول طعام لها في بيت ابن الحسن، فقد أعدت طعاما مصريا يذكرها بمصر ويشعرها بالارتياح، فكل هذه الأشياء مرايا للهوية الضائعة. كانت تزورها مصر بطبيعتها التي اعتادت عليها، وتتذكر طفولتها وهي تلعب في الطين تحت المطر. عندما هطلت السماء في الأندلس خرجت اعتماد من بيت ابن الحسن، ترقص تحت المطر وتمشي على الطين، وما فعلته لم يكن فرحا بالمطر ولا بطبيعة الأندلس، ولكنها كانت تستعيد طفولتها وهويتها بالرقص تحت المطر في بلد غريب؛ فلم يكن الرقص إلا تعويضا عن الفقد. تتسلل مصر إليها عبر حواسها، فتقول شيرين سامي: “تسللت إلى روحها سعادة تزورها كل حين عندما تطل عليها ريح مصر. أغمضت حين عرفت أشعة الشمس طريقها من بين أوراق الشجر ووصلت إلى عينيها مباشرة، مستمتعة بشعور الطين من تحت قدميها وبوجهها المضاء الآن بالنور الهارب.”
تمثيلات الطبقة والسلطة الاجتماعية:
تكشف رواية “السيدة الكبرى” لــ شيرين سامي عن الطبقات الاجتماعية في بلدين مختلفين: مصر- الأندلس، فكانت تستعرض حال البيوت والأسواق والمطحونين ومن يعانون شظف العيش وكدر الحياة. دخلت بنا شيرين سامي إلى بيوت الفلاحين، والبائعين، وتجار الرقيق، والأسواق، وفرشة البحر، وعشة مريم، والبدو الرحل، وبيوت النبلاء والأمراء، وبيت الشيخ الصوفي. دخلت بنا إلى الأزقة والحواري في مصر، وتمشَّت بنا في أسواقها وربوعها. كشفت لنا عبر تجوالها في هذه البيوت والأزقة عن حال الناس، وما يعانونه وكيف يدبرون ويديرون حياتهم.
عن طريق المفارقة في -بنيانها السردي- بين بيوت الأمراء والسادة وما تعج به هذه البيوت من ترف ولهو وبذخ، وبين بيوت العامة من الفقراء والمساكين الذين أنهكتهم الحياة وأثقلت كواهلهم الضرائب، هؤلاء العامة الذين لا يأبه بهم أحد، فالبسطاء هم من يدفعون ثمن الحروب بين الملوك والأمراء، ففي (ص: 94) تقول شيرين سامي على لسان أبي بكر بن عمار: “يتصارعون على حساب الأبرياء المسالمين الذين يعيشون على قوت يومهم، بل إن الواحد من هؤلاء الملوك يريد الانفراد بالسلطة ومحو ملك الآخرين حتى لو قتل البسطاء جرَّاء هذه الاعتداءات.”
التمثيل التاريخي: الرؤية من الخارج:
لا نستطيع أن نعدَّ العمل الروائي وثيقة تاريخية، ولكن التاريخ يهمل الجانب النفسي/الشعوري، لا يهتم بالتفاصيل ولا بالهامش، لا يسلط الضوء على أحوال العامة، لا يدخل التاريخ بيوت الفقراء ولا الأزقة ولا الحواري، لا تتكشف على مرايا التاريخ انكسارات الذات الإنسانية وما يعتورها من خيبات.
تأتي الرواية لتعيد تمثيل التاريخ مضيئة كلَّ هذه الجوانب المظلمة التي لم يشعل التاريخ فيها مصباحه، تعيد اكتشاف الذات الإنسانية، تعبر عنها وعن أحلامها وتطلعاتها. تدخل الرواية قصور الملوك باحثة عن أسرارها كاشفة عن خباياها، تدلف إلى غرف النوم، تحاور السادة والعبيد في دهاليز القصور، تكشف انكسارات الملوك وخيباتهم، تعرض لنا قسوتهم ورقتهم كبرهم وضعفهم.
كشفت الرواية الجانب الإنساني لمحمد بن عباد وولعه بالحياة، وهو يحاول اكتشاف ذاته. كشفت لنا عن تجرعه مرارة القتل عندما قتل رجلا دون تعمد منه. عن بغضه لأبيه الذي قتل أخاه إسماعيل دون هوادة أو رحمة. كشفت لنا أحوال النساء بالقصور والحمامات النسائية. عن فعل الجواري وسلطة النسوة في قصور الحكام. عن جرائم القتل العمد التي تتم داخل القصور. حياة الشعراء/الصعاليك. اكتشاف الأنساق الثقافية المضمرة في المجتمعين: الأندلسي – المصري. عن خيانات القصور وتدابير الخونة من الوزراء. حياة الجواري والعبيد داخل قصور الخلافة.
اللغة الشعرية في السرد النسوي:
أما عن اللغة – بوصفها النسيج الذي تتشكل منه قماشة العمل السردي – فقد توزعت على نمطين: لغة بسيطة تعتمدها شيرين سامي مادة للحوار بين الشخوص في العالم الروائي. وعندما تستنطق شيرين سامي الداخل الإنساني كانت تميل لغتها إلى الشعرية المتعالية؛ فالمستوى الشعري من اللغة يمنح السارد القدرة على استنطاق الذات الإنسانية من الداخل، وهذا ما نلمحه في قولها على سبيل التمثيل لا الحصر: “أما الآن فكل أوراقها جافة ومهترئة. لم تنم إلا بعد أن شقت الشمس السماء، أفرغت روحا وملأت ورقا.” وفي (ص:327)، تقول: “السماء تتلون بالغضب والحدائق تفقد بريقها ولونها. ضحكة المعتمد التي غابت، غاب معها الغناء، وحتى الزهور البيضاء المتساقطة على نافذة اعتماد باستمرار لم تفلح في أن تزيل غبار الحزن على حال المعتمد من قلبها.
احتشدت البنية السردية بصور مجازية متأنقة، ليست بالمكرورة ولا المستهلكة. أضفت هذه الصور المجازية بعدا جماليا على بنية السرد. ومن هذه الصور: “فقد انتشر الخبر مثل رائحة البخور في المساجد، ووصل إلى بيت أهلي قبل أن أصل.” وصورة أخرى في (ص: 89)، “هل سمعت صوت ارتطام قلب بالأرض من قبل؟”. وفي (ص:49)، “أخبرها أن لكنتها المصرية تجعل الكلمات مثل حبات التوت التي تسقط في الفم.”
سرديات الخيانة والوفاء/تحولات الشخصية:
تتوزع الشخصيات في رواية “السيدة الكبرى”على نمطين: الثابت – المتحول. فأما عن الشخصيات التي ظلت ثابتة على المبدأ، وتتحقق إنسانيتها بنبل فعالها: [اعتماد الرميكية- محمد بن عباد- قرة العين- ابن الحسن- الرميكي]. أما عن الشخصيات المتحولة والتي وقعت في براثن الخيانة: [قمر- أبوبكر بن عمار- عمر – يوسف بن تاشفين]، فالرواية في عموميتها تشتغل على سرديتين: الخيانة- الوفاء وعلى هذه الجدلية انبنت الرواية.
في المنفى دخل عمر البدوي بعد انضمامه لجنود يوسف بن تاشفين- عارضا على اعتماد الرميكية أن تترك زوجها، ولكنها أبت ورفضت اتهامه لزوجها بالخيانة. ظلت وفية نبيلة مع رجل أحسن إليها، فقد كان أبا وزوجا وملاذا. أخفى عنها بيع أهلها لها مخافة عليها وتقديرا لإنسانيتها.
كانت شيرين سامي مبدعة في لغتها وحبكتها ومفارقاتها السردية التي صعدت الأفق الدرامي للرواية.
حتى النهاية أصابتني بارتعاشات ورعدة، انهمرت دموعي عند آخر سطر في الرواية: “في النهار نادى رجل من أغمات نداءً يخصها، النداء الذي تردد بعدها بأربعة أشهر على المعتمد: الصلاة على الغريب.



