
في مشهد جديد آخذ في التشكّل داخل السوق العقارية المصرية، بدأت ظاهرة لافتة تتسلل بهدوء إلى صلب المعادلة بين المطوّر والمشتري، ولكن هذه المرة ليست في شكل تصميمات مبتكرة أو مواقع استراتيجية، بل في شكل مخططات تمويلية غير مسبوقة.
شركات تطوير عقاري كبرى، لطالما ارتبط اسمها بمشروعات ضخمة وشروط بيع صارمة، أصبحت اليوم تمنح تسهيلات سداد تصل إلى 10 و15 عامًا، مع مقدمات تبدأ من 0% وحتى 5%، دون تدخل مباشر من بنوك أو شركات تمويل عقاري متخصصة.
فما الذي يحدث؟ وهل هذا التحوّل هو مؤشر قوة ومرونة؟ أم أنه قناع مالي هش يخفي أزمة تتراكم بصمت تحت سطح السوق؟
■ مطورون عقاريون.. ولكن بصبغة “تمويلية”
التقسيط أصبح هو البطل. هذا لم يعد جديدًا.
الجديد أن المطورين الكبار، الذين لطالما التزموا بنموذج مالي صارم، بدأوا في تمويل عملائهم بأنفسهم، متحملين عبء التدفق النقدي، وتحمّل المخاطر التمويلية كاملة، بما في ذلك تأجيل أول قسط إلى ما بعد الاستلام، أو تقسيط الوحدة على أكثر من عقد زمني.
يبدو المشهد مغريًا للعملاء، لكنه قد يحمل بداخله فخًا تمويليًا معقدًا، خاصة حين يتم هذا النموذج في ظل غياب كيان مالي متخصص يتحمل عبء المخاطر، ودون دراسة كافية لقدرة الشركات على تحمّل الالتزامات طويلة الأجل.
■ لماذا يتجه المطور إلى التمويل الذاتي؟
الظاهرة لا تُقرأ بمعزل عن السياق الاقتصادي العام.
في ظل التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وتراجع القدرة الشرائية للعملاء، باتت عمليات البيع أكثر تعقيدًا.
في الوقت نفسه، يشهد السوق تشددًا من البنوك في منح التمويلات، خاصة للمشروعات العقارية، مما دفع العديد من الشركات للبحث عن حلول من داخل بنيتها المالية.
النتيجة؟
بعض الشركات قررت ببساطة أن تقوم بالدورين: تبني، وتُموّل.
لكن هل تمتلك كل الشركات الكفاءة لإدارة هذا التوازن المالي الحرج؟ وهل لديها ما يكفي من الخبرة لتقييم الجدارة الائتمانية للعملاء؟
هنا تبرز الإشكالية.
■ مخاطر غير مرئية: الوجه الآخر للمرونة
رغم أن هذه “المرونة” تعطي انطباعًا بالنضج والتطور، إلا أنها تخفي خلفها مجموعة من المخاطر المركّبة:
• خلل في التدفقات النقدية للشركات، مما يهدد قدرتها على تنفيذ المشروعات أو تسليمها في الوقت المحدد.
• تغييب البنوك عن منظومة التمويل يقلل من الرقابة والتحوط.
• وجود نسبة من العملاء قد يتخلّفون لاحقًا عن السداد، مما يهدد بموجة تعثرات مستقبلية.
• احتمال نشوء ما يشبه “الفقاعة” في السوق إذا استمر التوسع في التمويل دون ضوابط.
■ هل يتحوّل السوق العقاري إلى نموذج التمويل الذاتي بالكامل؟
في الأسواق العالمية، لا يقوم المطور بدور البنك. بل يُفترض أن تكون هناك شركات تمويل عقاري، أو تدخل مصرفي مباشر، لتوزيع الأدوار وتقليل المخاطر.
لكن في السوق المصري، بدأنا نرى دمجًا غير صحي بين دور المطور ودور المموّل. هذا الاتجاه، إن استمر، قد يقود السوق إلى تشوه هيكلي، يجعل الشركات تعاني مستقبلًا من أزمة “سيولة مؤجلة”، ويحول التعاقدات طويلة الأجل إلى التزامات غير قابلة للتحقيق.
■ ما العمل؟ سيناريوهات وتوصيات
أمام هذا الواقع، يمكن تصور ثلاثة مسارات للسوق:
1. الاستمرار في النموذج الحالي بلا ضوابط، مما قد يُفضي إلى أزمة ثقة أو فوضى مالية على المدى المتوسط.
2. تدخل الدولة والبنك المركزي لتنظيم العلاقة التمويلية، ووضع حدود واضحة لدور المطور العقاري.
3. خلق شراكات ذكية بين المطورين والبنوك وشركات التمويل العقاري، لإعادة توزيع المخاطر وتعزيز الرقابة.
وقد يكون الخيار الثالث هو الأجدى، لأنه لا يُقصي الشركات من المشهد، ولا يُثقل كاهل البنوك، بل يُنتج صيغة تمويلية “هجين”، تقوم على التكامل لا التداخل.
■ في الختام: هل ننتظر الأزمة حتى نتحرك؟
السوق العقاري المصري لا يزال أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، ومصدرًا رئيسيًا لتشغيل العمالة وضخ الاستثمارات.
لكن إذا لم يتم الانتباه لهذا التحول الصامت في آليات البيع، فإننا قد نكون بصدد أزمة مؤجلة، لا تقل في خطورتها عن أزمات العقارات العالمية التي بدأت جميعها بفكرة بسيطة: “تسهيلات بلا حدود”.
فهل نُعيد تنظيم قواعد اللعبة الآن، أم ننتظر انفجار الفقاعة؟