منوعات

محمد عطية يكتب : «البرغوت»

دخل سعيد إلى حياتها في الدقيقة الأولى من منتصف نهار ثلاثاء باهت. في مساء نفس اليوم ظهر أول برغوث على سطح مكتبها المنزلي الذي تدون فوقه أشعارها كلما أهلكتها الحياه حزنا أو فرحا. لم تربط خديجة حمدي بين سعيد والبراغيث إلا بعد عام على زواجها منه.

استعانت بالشركة “الفنلندنية” المعروفة في إبادة الحشرات بالرش، تطلب منها الأمر إنفاق الآلاف والآلاف كي تُخرج هذه الكائنات الطفيلية من بيتها دون جدوى، في زيارة من زيارات مبعوثي الشركة ظلت خديجة تبكي، زوجها يعمل خارج البلاد وفي درج مكتبها تستقر رزمتان من الورق البنكي، ألفان جنيها فقط لم تكف لسداد خدمة التخلص من البراغيث. قال لها المندوب: “شوفي يا استاذة الجالون الواحد من المبيد ب50 جنيه” وافقت أملة أن الرش لن يتعدى الجالونات العشر، “500 جنيه +50 جنيه للمندوب..مش إشكال ..يابلاش” فكرت.

استمر النصاب في إغراق شقتها بالجالونات، حينما اقترب العدد من 40 جالون سرى الدمع من مآقيها كانفجار برميل من الطرشي. ترجت مبعوث “الفنلندنية” بمراعاة ظروف ربة منزل سافر وغاب عائلها الوحيد بينما جيوبها خاوية الوفاض.

رغم “تنازل” رجل الرش عن 500 جنيه كما لو أنه على حق، كما لو أنه لا يمارس أي فعل من أفعال التدليس والاحتيال، رغم ما سبق، لم تُنفذ المهمة، ظلت الكائنات السوداء تعبث وتعيث فسادا في الأرجاء بل وتتكاثر في تبجح عديم المنافسة. عاد سعيد ليواصل امتصاصها هو الآخر.

تستيقظ لتجد الأماكن العارية من ذراعيها ورجليها مزروعة بالعضات، بقع حمراء يتبين مع استخدام عدسات مُكبرة أنها فتحات بالجلد، فتحات رسمتها أسنان عائلات من البراغيت. يمارس زوجها نفس الشئ. تُفضل الحشرة المفترسة المتضائلة الدماء، يفضل سعيد التهام روحها والتغذي على سعادتها، يمد نابيه العلويين ويكدر صباحاتها ولياليها بخناجر من إهانة وإضعاف همة وتحقير شأن وإذلال وتسلط.

وجدت خديجة أنها مسكينة، بالأحرى ساذجة تحولت إلى ضحية برائتها ومحدودية خبرتها بالرجال وعالم الرجال، اقترنت عبر وثيقة شرعية وختم بسفاح تفور دماؤه كلما وجدها سعيدة. لاح لها التناقض بين اسم الزوج وبين عدائه للبهجة، مقته أن تمر بها دقيقة واحدة، ستون ثانية في هناء وخلو بال، والويل كل الويل إذا أحست يوما بشئ أصبح محظورا عليها: الأمل

فتشت على جروبات الفيسبوك والصفحات التي يجلبها معه متطوعا محرك جوجل للبحث عن شركة ما لإبادة الأزوج النكديين، كانت لا تزال مسكينة، بالأحرى جاهلة بالمسمى الحقيقي لمرضى على شاكله سعيد، يطلق عليهم الخبراء “النرجسيون”.

جاء الفرج حين امتصت البراغيث نصف لترات شرايينها، بقي ما يكفي لملء حلة خاوية صغيرة، وللحيلولة دون فراغ الحلة بشكل مطلق وحصولها على لقب القتيلة، وهبتها الأقدار ومراحم السماء فكرة، “أنا ليه مش مبسوطة؟” تسائلت وهي تجلس أمام جامع الحاكم بأمر الله في زيارة جاءت دون تخطيط، وبعد اختلاق قصة خداعية “أنا رايح لماما تعبانة جدا”.

جاء الفرج في حسمها للأمر بعد تراكم جرعات السم التي أسقاها إياها “شريك العمر” مع كل سباب وشتيمة وتلاعب ذهني واغتيال لإيمانها ونهش ثقتها بقدراتها. رأت هناك -أمام مسجد الفاطمي الذي اختفى فجأة واتخذه الدروز قديسا- سحابة ثلجية تسير عكس مثيلاتها، “سأصير أنا هذه السحابة وأعكس كل أفعالي”، اشترت كراسا ورقيا من مكتبة بدرومية في حي الحسينية، سجلت خطتها للانتقام واستعادة الروح بين هلالين:
(5 أعوام لم أضحك يوما، لم أغادر العاصمة، لم ألتق بصديق، نسيت الشواطئ والمطاعم وصالات الرقص والمطربين ورائحة الورود التي تباع للأحباء فوق كباري النيل.. الآن سأضحك، من الآن سأرقص، حان وقت اشتمام الزهور ..جاياااااااااااااااااالك يا اسكندرية)

دق قلبها فور انتهاء التدوين. تذكرت العاهر الذي يحسب خطواتها ويقيد أجنحتها طوال 60 شهرا من الجحيم، جحيم كان بابه دفتر مأذون ذو دفتين. دلكت برفق عظام صدرها، أمسكت ورقة مقتطعة من كراسها الجديد، دستها في شق بين نهديها، واستمدت من إحساسها بخشونتها وخروشتها على امتداد الطريق قوة “يا انا يا انت يا غراب البين”.

شهر ونصف ورحل سعيد عن عالمها، لتستعيد الوجود المسلوب. ستة أشهر بعدها لاسترجاع كل باقة أصدقائها الذي حرمت منهم بفضل معتوه. يوم واحد لاختفاء البراغيث -كلها- مع صفق سعيد باب البيت كطليق، دون عودة. تخلو الآن رجلاها والمناطق العارية بذراعيها من الدوائر الحمراء، صَفَت نَفْسُها، نُقيت روحها من السموم.

في الدقيقة الأولى من منتصف كل يوم تفتح شباكها المطل على الشارع وتنشد دون تردد: يادي النعيم اللي انت فيه يا قلبي من بعد العذاب. كان لك حبيب تشتاق إليه وارتد لك بعد الغياب، ملقية، بين كل كوبلية والثاني من الأغنية، نظرة لانعكاسها في المرآة. عادت خديجة إلى خديجة.

اقرأ أيضًا : محمد عطية يكتب : اليوم الأخير فى حياة سلوى نصار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى