(مدرسة نعناعة لتعليم الجليطة وقلة الذوق) .. كان الدافع قويا لدرجة إجباره على الالتحاق بمدرسة تحمل هذا العنوان الغريب. وجد قدميه تصعدان السلالم إلى الدور السابع في حماس وإقبال ضاغطا زر الجرس عدة مرات متيحا للأسطى نعناعة-المعلمة الوحيدة بالمكان- معالجة عدة أقفال وترابيس ودفع الباب الذي يفتح للخارج.
“قبل الدخول اقرأ الفاتحة” .. قالت الأسطى
دخل شوقي يزبك -سليل عائلة يزبك إلى العالم “الجواني” للمكان. شتائم بالعامية منقوشة بماء الذهب على الحوائط، أواني نحاسية على هيئة أعضاء جنسية ذكرية وأنثوية في كل ركن، مصباح مزود بفتحة سفلية تشبه الأنف ويطلق شخرة اعتراضية غير منتظر ما يغضبه. أطلق يزبك ضحكة لم تدهش لها نعناعة. لوحت بسبابتها “تعال” . دخلا إلى غرفة صغيرة لتلقي الحصة الأولى.
قبل يومين من كورس البذاءة هذا، فاض الكيل بشوقي، كانت شكواه قد وصلت إلى عنان السماء من شدتها، ليست شكوى من أخر، بل بالأحرى منه هو بشكل شخصي، كم من مرة يصاب بالهلع بعد أن ينهي اتصالا هاتفيا، يشد أنفاسا بصعوبة من الهواء في ظل مناخ من الرعب يغتاله، بعد كل مكالمة تليفونية أو لقاء عابر مع زميل أو صديق أو قريب له.
إنها اتصالات عادية أولها سلام ونهايتها تحيات وأوسطها كلمات مهذبة عن موضوع ما، لا يتخللها شجار أو تهديد أو وعيد أو تنابز بالألقاب، يحافظ كل طرف من الجانبين، يزبك من هنا وفلان أو فلانة من هناك على الأعراف الاجتماعية والتهذب المعهود في أي تواصل بين البشر. رغم ما سبق تلتهب أعماق شوقي، لا يزال ممسكا بالموبايل وفي صمت ينسج شبكة من الكوابيس، تتسع عيناه ذعرا ويسترجع كل كلمة قالها عبر الموبايل وكل كلمة قالها له محدثه. يتعالى جلد الذات برأسه دون سبب واضح: “ياريتني ما عملت المكالمة دي…الراجل شكله اتضايق مني.. تلاقيه دلوقتي بيقول عليا حمار.. هيفتكرني بنافقه..ميتين أم كده” “الست باين عليها فهمتني غلط ..أنا مكانش قصدي أضايقها أو ألمح تلميحات وسخة”..لا يسب سليل عائلة يزبك إلا في سره، وفي العلانية دائما ما “يدلق” من لسانه كلمات معسولة محببة على الصعيد التفاعلي بين الناس “معلش يا ريس تعبتك معايا” “ربنا يكرمك يا حج” “تسلم إيدك ياحبيبي” “ربنا يديلكم طولة العمر” .
لا يشعر بالسعادة إزاء إطراءاته أو ثنائه للآخرين. حين يغادر الفرن الذي اشترى منه لتوه خبزا، أو محال العصير والبقالة وأكشاك بيع الشويبس وكروت الشحن، وبعد أن يكون قد “سكب” من محفوظاته المهذبة عبارات أنيقة لجبر خاطر البائعين، يقوم بسب البائعين سرا، حين تفصل بينه وبينهم أمتارا.
مما ينشأ الهلع داخله؟ لا يعلم، أمن ثقته أنه ينافق ولا ينطق إلا بالإفك، الإفك المحبب اجتماعيا، أمطلوب منه أن يعاجل الفران والقهوجي وقاطع الأجبان ووزانها والفكهانية والخضرجية بصفع أقفيتهم ولكمهم ولعن أجدادهم ووصم أمهاتهم بتهم البغاء، بعد كل معاملة تجارية ما تربط بينهم, وهل سيسمح له هؤلاء بهذا الجنون والتعدي؟ أسيظل على قيد الحياة يسعى ويشتم إذا فعل؟ المنطق السليم وغير المنحاز يخبرنا أن “لا” . لهذا زادت معاناة الفتى وها هو الآن بعد 48 ساعة في الدور السابع يجالس الأسطى نعناعة، يتعلم معها -في البدء على الأقل – أبجدية تشمل كل أحرف الهجاء والتي تقتصر على ثلاثة: الألف والحاء والألف.
“كفاية كده عليك النهارده يا عريس” نطقت نعناعة مع تجاوز الليل لمنتصفه
عريس؟
طبعا وسيد العرسان كمان. معايا هتخش الدنيا
وبالفعل دخل يزبك “دنياه” الحديثة متدرجا في مستوياته التعليمية من “النظر إلى كل المخلوقات نظرة دونية لا يستحق معها أي إنسان تقدير أو مجاملة” مرورا بضرورة عدم القيام بأي اتصال هاتفي والاكتفاء بالواتساب كوسيلة للتخاطب، ونهاية بالتدرب على التشويح بالكف والذراع ومط تفاصيل الوجه لإنزال الرهبة فيمن حوله. بقي سؤال هائم: هل نجح يزبك؟ ليس لدى كاتب تلك الأسطر أي معلومة دقيقة بشأن الإجابة.