ثلاثة أرباع الناس المحيطين بك، والذين تتصوّر أنك تعرفهم كظهرِ يدك، والذين يُلقون النكات طول الوقت، ويشاركون صورهم “والفرحة بتنط من عنيهم” عبر فيس بوك: غير حقيقيين، ولا يتصرّفون على طبيعتهم أمامك، ولا يفعلون كل ما يريدون أبدًا، ولا يتفوّهون أمامك بنصف ما يريدون قوله لك، لأنهم يخافون القيل والقال والعادات والتقاليد والعواقب والتبعات وبابا وماما وطنط وعمو وأونكل وحرارة الصيف وخرطوم الغسالة و… و…و….
يخافون تغيير صورتهم أمامك، أو اختلاف معاملتك لهم، بناءً على ما اكتشفتَ عنهم!
يخافون البراويز الحديدية التي صنعناها لهم، وحشرناهم فيها، والكتالوج الذي ننتظر منهم السير على بنوده، كحد السيف، بلا تأخير أو تقديم، أو مفاجآت ليست في الحسبان، فيتحرّكون في حدود ضيقة للغاية، وخطوط مستقيمة، لا تمثّل أحلامهم ولا تعبّر عن قدراتهم ولا تلبّي طموحاتهم، رسمها المجتمع والناس، لا أنفسهم، خطّها آلاف العاديين قبلهم، الذين ساروا على الدرب نفسه، وفعلوا الأشياء نفسها، ولم يملكوا الخروج عليها أو مخالفتها أو تكسيرها، والبدء على “نضافة”.
ونحن في سقوطنا المروّع، واستسلامنا المدوّي لمن حولنا، لا نصارح أنفسنا بالحقيقة، ونحرص على ألا تقع أبصارنا على أنفسنا ونحن نرتدي الملابس المسرحية، ونضع الأقنعة، ونتحرّك وسط قطع الديكور المعدّة سلفا، كي لا نبدو في صورة دونية، وتتمزق ورقة التوت التي نستر بها إيماننا الهشّ بما نفعل، إنما نردّد شعارات فخمة، عن القضاء والقدر، والمسؤولية الكونية، واختيار الله، ونرفع لافتات مكتوبة بالنيون عن واجبنا المقدّس نحو الآخرين، ودائرة الحياة، والأمانة التي اختصنا الله بها، وصولا للاعتقاد يقينا بأننا شهداء، وأن موعدنا الجنة!
وهو الهراء بعينه كما تلاحظ، فمَن لم يدخل جنة الدنيا، لم يدخل جنة الآخرة، ومَن لم يختر مصيره في الحياة، لن يختاره يوم الدين، فنحن لم نأت الدنيا لنتعذب، ونحاسِب على مشاريب الآخرين، ونُفني حيواتنا في حيوات غيرنا، أيا كانت درجة قرابتهم لنا، هذه تضحيات لم يطلبها أحد منّا، إنما نحن الذين نبذلها طوع إرادتنا، لنشعر أننا أفضل من الآخرين، وأكثر سموًا، وأقرب إلى الله من هؤلاء الكفرة الذين يعيشون حياتهم كما يتمنون، بل –تصوّر الفُجْر- ويستمتعون بها!!
الناس مساكين، لكنهم السبب في مَسكنتِهم، فهم الجاني والمجني عليه، الظالم والمظلوم، الجلاد والضحيّة، فلا أحد يريد أن يفرّ من هذه السجون، ويكسر حجارتها، ويفرد يديه في الهواء، ويقفز و”يتنطط” ويغنّي بحرية!
لا أحد يريد أن يغيّر المتعارف عليه، ويكون رائدًا في اكتشاف مجاهل الحرية الحقّة والإرادة الإنسانية التي تستحق التقديس.. لماذا؟ لأنهم يحصلون على مقابل وهمي إزاء هذا، اسمه احترام الناس والعائلة، اسمه التقبّل المجتمعي والاعتراف بعضويتهم في الجامعة الإنسانية، ويتصوّرون أنهم إن فقدوا ذلك، لن يتمكنوا من التنفس والأكل والشرب والحركة للأمام والخلف!
وهم على خطأ بالقطع.
محمد بن عبد الله تمرّد على الجماعة الإنسانية، وأتى بما لا يتفق مع معتقدات قومه، وكان الحق.
جاليليو خالف علماء عصره، وجهابذته، وقال إن الأرض تدور، فحبسوه في بيته، ومنعوه من الخروج، لكنه كان على حق.
كوبرنيكوس حطّم الغرور الإنساني، وقال إن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، ولقي ما لقي من السخرية والتكذيب، لكنه كان على حق.
وكل هؤلاء اعترف بهم المجتمع بعدها، ودان لهم بالولاء.
فنحن الذين نصنع المجتمع، ووجودنا سابق على وجوده، ودوننا لا وجود له.
وحركتنا الآلية حول أصنام المجتمع–التي تنتظم قطعان الماشية والبشر على حد سواء!- وإن كانت منتظمة ومتدفّقة ومريحة، فهي بلا روح، ولا مستقبل، ولا يمكن أن ينتج عنها إبداع حقيقي، أو بهجة، أو مساحات وصل وونس.
وهو ما يمكنك أن تمدّ يدك وتلمسه بسهولة، في لحظات السرحان والتوهان التي تسيطر على هذه القطعان، في فقدانهم الرغبة في الحياة، وانكسارهم لدى أقلّ لمسة، في افتقادهم للهدف والغاية، في توقف أحلامهم عند الأمان المادي، دون أن تتخطاه للتأثير والإضافة لرَكب الإنسانية، في ذبولهم وموتهم بالبطيء، وتحوّلهم التدريجي من بشر إلى ماكينات ATM.
ولو كان هؤلاء يفعلون ما يحبّون، وما يتوقون لفعله حقيقة، لما كان هذا حالهم!
والمشكلة أن الإنسان لا يملك إلا حياة واحدة، إن أنفقها بقشيشا على حيوات الآخرين، فمتى يعيش؟!
أما الأزمة الأكبر: أنك ستستفيق يومًا، بعد أن تصل لنقطة الصفر، وتشعر أن العمر جرى، والشباب طُويت صفحتها، والوقت المتبقي لم يعد في صالحك، دون أن تفعل شيئا ذا قيمة، أو تعيش لحظة حقيقية، ووقتها، سترغب في تحطيم كل شيء، وأي شيء، حتى الأمجاد التي تصوّرتَ يوما أنها تستحق ما تبذل من أجلها، وربما نفسك أيضًا التي رضختْ للابتزاز المجتمعي، وارتضتْ لك أن تتورط في “شبه الحياة” التي عشتها!
ولن تقف أمامك حدود أو عوائق يومها، ولن تمثل الخبرة التي اكتسبتها في مشوارك أي رادع أو فارق أو معين، ستشعر بالجنون، بالنهم، بالسعار، والرغبة في تجربة كل شيء، وأي شيء، حتى ما كنتَ ترفضه أخلاقيا أو دينيا، وستخلق لنفسك آلاف المبررات، وتندفع في طريق طويل طويل، ليس أفضل ما تسير خلاله في هذه المرحلة من حياتك، ولا أجمل خاتمة لتاريخك المليء بالخذلان!
لكن المؤسف، أنك حتى إن فعلتَ كل ما تريد، في هذه اللحظة العاصفة من حياتك، فلن تشعر بالإشباع والريّ والاكتفاء والرضا والأمان، فقد فات وقت كل هذا، وما تعيشه الآن، محاولة للحاق بآخر عربة في القطار، بعد أن كان أمامك الركوب في عربة مكيّفة، للفرجة ومشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة، بينما تمضي في سبيلك بتؤدة، نحو هدف تعلمه جيدا!
والذين نعمل لهم ألف حساب اليوم، ونخزّن حياتنا، ونخفي حقيقتنا، من أجلهم، الذين “نبدّي” حياتهم على حياتنا، ونتصور أنهم سيقدرون مستقبلا، الذين نرهن أعمارنا وأحلامنا على عتبات احتياجاتهم، لن يكونوا معك يومها، ولن يمدّوا أياديهم ليُطبطبوا روحك التي تحترق، ولن يحتضنوا قلبك الذي ينبض بقوة بعد أن اكتشف الفخ الذي أطبق عليه، لن يكون هناك –كالعادة- سواك، والفاتورة الضخمة التي رغم أن اسمك مكتوب فيها، فإن جميع طلباتها لم تكن لك يوما!
ويومها سيعيشون..
وتموت!
اقرأ أيضًا : حسام مصطفى يكتب : عقدة الإنجليزي!