في ظهور نادر وعزيز بالقياس إلى فترة احتجابه التي امتدت لنحو ستة أعوام أطل الأستاذ بهاء طاهر في فبراير قبل الماضي عبر فيديو قصير اعدته ابنته ( يسر ) وجه فيه الشكر (لمن أحبوه ) وخصني بالذكر أنا والصديقة الروائية سحر الموجي لأننا قبلنا دعوة الأستاذة ليال الرستم من مكتبة ديوان للمشاركة في احتفال افتراضي أعدته المكتبة لأجل عيد ميلاده .
كانت المناسبة عزيزة ، لكنها خلعت القلب خلعا وجعلتنا وجها لوجه مع حالته الصحية التي أنكرناها كثيرا ، وتواطأنا جميعا على تجاهلها ونسيانها لمقاومة نسيانه .
نجحت عائلة الأستاذ بهاء طاهر في الحفاظ على صورته التي نعرفها ، أنيقة كما أرادها دائما ,حيث لم يكن يطل إلا وهو في ال(بهاء )
وبالمثل حرص من أحبوه على احترام عزلته ليضمنوا له أياما هادئة خالية من لعبة “تبادل الألم ” .
لم تكن مشاركتي مع سحر في الأحتفال ب(بهاء ) هي الأولى ، فقد اختارنا قبلها لنشاركه الظهور في برنامج تلفزيوني كان يقدمه الكاتب الكبير عبد الله السناوي ، على شاشة قناة التحرير .
واختار معنا الناقد البارز الصديق محمد بدوي ، قبل أن ندخل استديو التصوير ضحكنا حين قال للسناوي ( أنا جبت ناس بيحبوني علشان الكلام يبقى خفيف ، والامتحان يبقى ساهل ).
خلال الحلقة حكينا كيف عرفنا بهاء طاهر وقلت أن مسيرتي المهنية ارتبطت به ارتباطا وثيقا ، فأول مقال كتبته بغرض النشر كان حول أعماله الكاملة حين صدرت في طبعتها الأولى .
كنت قبلها قد وقعت في غرام كتاباته عندما قرأت ( أنا الملك جئت ) ثم ( بالأمس حلمت بك ) حين صدرتا في سلسلة مختارات فصول التي كانت رفيعة القيمة ويندر أن تجد فيها عملا ضعيفا ، فقد حكمتها ذائقة ابراهيم أصلان الفنية وصرامة سامي خشبة ووعيه النقدي الحاد .
أذكر إلى اليوم الأثر الذي تركته داخلي الكثير من قصصه بفضل تركيزها الرهيف على الفجوة بين الثقافات ، وتناولها لندوب الفقر كعنوان لقهر لا ينتهي.
قرأت بعدها مجموعة ( الخطوبة ) وأحببت منها قصة (المظاهرة ) التي شاعت كموضوع للدرس النقدي .
والمؤكد ان اكتشاف ( قالت ضحى ) كان محطة فاصلة في وعي جيلي بأكمله ، ساعدتنا الرواية على أن نضع المشروع الناصري في إطاره الصحيح ، وأتاحت لنا الفرصة لمراجعته على خلفية قصة حب من نوع لا يمكن تفاديه .
كانت “ضحى “بطلة بمواصفات مختلفة ، طبعت أرواحنا ب” الحنين ” وأمدتنا بروح شعرية تحول معها اسم بهاء طاهر إلى ماركة مسجلة ،لذا ظلت موضوعا لنقاشات لا تنتهي داخل شلة الجامعة التي ضمت أسماء صارت فاعلة في المشهد الأدبي بعدها مثل ياسر عبد اللطيف والشاعر أحمد يماني والشاعرة جيهان عمر والروائي حمدي الجزار والمسرحي الراحل محمد أبو السعود والناشط عبد الناصر اسماعيل ( جوني ) .
دارت الرواية في طبعة روايات الهلال بين أيدي هؤلاء وغيرهم لذلك لم يكن غريبا أن يرشحني ياسر عبد اللطيف لأكتب عنها بعد تخرجنا هي وبقية أعمال بهاء طاهر حين صدرت عن دار الهلال
قدمني ياسر للناقد ابراهيم منصور الذي لم اكن أعرفه ، ودلني على بيته في المعادي لأحصل على النسخة واكتب عنها لباب كان يحرره لمجلة ( الهلال ) تحت عنوان (من الهلال الى الهلال ) وكعادته التي عرفناها بعدها لم يكمل منصور تجربة العمل المنتظم واختلف مع رئيس تحرير الهلال ولذلك لم ينشر المقال لكنه احتفظ به و سلمه لبهاء عندما جاء من جنيف في اجازة .
قرأ بهاء طاهر المقال وأرسل في طلبي وأوصاني ابراهيم منصور بالذهاب إليه في الموعد المحدد لأن بهاء ( راجل سويسري ) قلت له ” يعني إيه ” ورد قائلا ” مواعيده مضبوطة ”
ذهبت وفي رأسي الجملة الأولى في (الخطوبة ) وهي أول سطر في الأعمال الكاملة ( كنت قد اعتنيت بكل شيء ) ومثلما فعل البطل فعلت ، اعتنيت بكل شيء ، حلقت ذقني وكويت هدومي ولمعت حذائي خلال اللقاء عرفت أن هذه الجملة تفسر المسار الذي رسمه بهاء طاهر لنفسه ولحياته ولمواقفه ، فالأصل هو العناية والتأمل.
لم أفاجىء بصورته على مقهى زهرة البستان وهو يرتدي بدلة أنيقة وكاملة ، أعجبه وصف كاتب العناية المركزة الذي اخترته عنوانا لمقالي وقال لي ” بالفعل لا أضع كلمة في غير موضعها ”
جلسنا جلسة طويلة جدا استكملناها في ” تمشية “حانية على النيل وصلت بنا إلى بيته في الزمالك ثم جلسنا مرة أخرى على مقهى عمر الخيام المجاور لالتقاط الأنفاس ثم أشار لي إلى البناية وقال ” هذا هو بيتي ، ابقى تعالى ” ثم واظبت بعدها على الحضور في المواعيد التي نحددها بدقة على التليفون.
بعد سنوات استقراره في مصر ساعدتني فترة العمل بضاحية الزمالك على تنمية علاقتي معه ، اتصل ونلتقي إما بالمقهى أو في مكتبة ديوان ثم جاءت مرحلة قهوة ” الحارة المزنوقة ” بعد ثورة يناير حيث كان حريصا على تكوين رؤية حول ما يجري ، كان حرصه على اللقاء مع السياسين واصحاب الرأي أكبر بكثير من حرصه على مقابلة الأدباء وخلال تلك الفترة كان أدبه قد شاع ووجدت رواية ( واحة الغروب ) نجاحا استثنائيا بسبب جائزة البوكر وتحويلها لمسلسل شهير لكني بقيت مخلصا ل(ضحى ) وكان يقول لي (أنت مش ناوي تخونها بقى ) ونضحك.
رغم مئات الروايات التي قرأتها ظلت (قالت ضحى ) رواية فارقة في روحي ، وبعد غياب الأستاذ بهاء طاهر بقيت أبحث عنها لأربعة أيام متواصلة إلى ان وصلت إلى نسخة التي أحملها معي منذ عام 1992 ووجدت فيها تعليقا نقديا كتبته بانفعال في صدر صفحتها الأولى (هذه واحدة من أهم الروايات التي قرأتها في حياتي (كان عمري 22 عاما ) حيث تحتفي بالألم الخاص لصالح الألم العام وترفض اليقين وتبدد النبوءة ).
خلت نظرتي ل” ضحى ” من القسوة والإدانة ورأيتها ضحية ،فهي الوحيدة التي تنتهي ب” التبدد ”
شأن بعض أبناء جيلي تمنيت لو أحببت فتاة تشبهها أو لو انجبت فتاة لها نفس الأسم لكن صديق عمري أشرف عبد الشافي فعلها وتزوج قبلي وأنجب فتاة رقيقة أعطاها الأسم الكودي لبطلتنا المفضلة ، تلك البطلة القادمة من خيبة الأمل.
في مقدمته الرائعة ل” خالتي صفية والدير ” حكى بهاء طاهر عن السحر الذي خلقته الرواية وعن الأشعار التي كتبت فيها لكني انظر لها بطريقة أخرى بعد أن تغيرت الخبرات والخيارات.
علمتنا الرواية – لا أحب هذه الجملة – لكن هذا ما جرى بالفعل
علمتنا بالفعل ووضعت إطارا لاحلامنا وهواجسنا وكوابيسنا التي تكررت ،
حين تحدث معي الراحل عن أمه الصعيدية ذات يوم ، تحدثت أيضا عن أمي الصعيدية وذكرته بالمشهد الفاتن داخل الرواية للأم التي تشكو قهرها للدجاجات التي تربيها على السطح ، طفرت دمعة من عينه وقال ” على فكرة لم اكن اتحدث عن أمي التي كانت امراة قوية ”
تعلمت من الرواية ما قاله بطلها ( أن أكره القهر ،قهر الانسان بالفقر وقهره بالخوف واهم من ذلك قهره بالجهل ، أن يعيش ويموت دون أن يعرف أن في الدنيا علما فاته وجمالا فاته وحياة لم يعشها أبدا )
ومثل البطل أيضا عايشت نوبات من “خيبة الأمل ” لكن الأنسان لا يملك إلا أن يراوده الأمل في أنه ربما بمعجزة ما ستورق من جديد تلك الشجرة التي سقطت في الأرض وماتت ، ستصل رسالة ما ، مكالمة ما ، سيلقى الوجه الذي هجره فجأة في الطريق فيبتسم العيون وتتعانق الأيدي ويرجع كل شيء)
في هامش الرواية كنت اكتب تعليقاتي واختلف مع المؤلف دون أن املك الحلم حتى برؤيته ،فالرجل كان هناك في البعيد مهاجرا إلى بلد بارد لا تصل أحلامي إليه لكنها الكتابة بكرمها وألمها ساعدتني على بناء صداقة كاملة ولدت في عالم مواز ثم وجدت على الأرض طريقا لتتحق .
يتملكني الآن حزن غامر ، تحرر من الكتابة وامتد إلى ما خلفها بفضل المعاني المستبطنة والجروح التي لا تزال غائرة والتي تخلق الشعور العميق بمعنى الصحبة وقيمة ( الونس ) وهذا بالضبط ما أشعره به الآن أن ما سأفقده هو ( الونس ) لان بهاء طاهر ببساطة كان رجلا تأتنس له وتتطمئن وأنت معه.