قامت “الجمهورية الأولى” على وضوح الموقف والرؤية.. إستمرت على “منهج 23 يوليو” حتى رحل قائدها وزعيمها..
تختلف مع المنهج أو تتفق.. تخدم فى مشروع هدم هذا المنهج, أو تدافع عنه.. تهاجم “عبد الناصر” أو تدافع عنه..
لكن لا تستطيع أن تنكر احترامك وتقديرك له, كما عبر عن ذلك أعداؤه قبل أصدقاؤه.. هنا يكمن سر القتال ضدها وضد زعيمها, لأكثر من نصف قرن بعد رحيله.. ومن هنا تجد تفسير بقاء راياتها مرفوعة, بإرادة أجيال وراء أجيال!
أخذت “الجمهورية الثانية” طريق “الخداع الاستراتيجى” للشعب وشركاء الحكم.. شمل هذا “الخداع” الحلفاء قبل الخصوم.. العرب وإسرائيل والاتحاد السوفيتى وأمريكا.. لأن رؤساء هذه الجمهورية أبهرتهم السياسة وفق قناعة “معاوية بن أبى سفيان” بأن السياسة نفاق!! وإذا كان الذين دعموا وناصروا “أنور السادات” من الصف الثانى والثالث فى “زمن عبد الناصر” قد اكتشفوا “الكمين” الذى وقعوا فيه.. سنجدهم عبروا عن ذلك بوضوح, وذهبوا إلى “خنادق خصومه” ليتحصنوا فيها.. يكشف ذلك “موسى صبرى” حين أراد أن يجعل “السادات.. الحقيقة والأسطورة” وهو كتاب يستحق الدراسة بهدوء ودقة شديدين!!
دعنا من الذين تاجروا بالناصرية, وتكسبوا منها!.. دعنا من “عشاق السادات” والذين حكموا بعده!
نتوقف أمام تجربة “ممدوح سالم” كواحد من الأعمدة الذين قامت عليهم – وبهم – “الجمهورية الثانية” لأنها تقول الكثير.. فقد كان أحد المسئولين عن أمن “عبد الناصر” وراهن عليه “السادات” لكى ينقذ البلاد من الذين عرفناهم بوصف “مراكز القوى” خلال لحظة عاصفة!! إختار الرجل الدفاع عن الوطن فى ضوء معلومات كان يعرف بعضها.. قل الكثير منها.. واختار أن يشاركه المسئولية أكثر المقربين له ويثق فيهم.. بعد أن أقسم اليمين كوزير للداخلية, قام بتعيين “سيد فهمى” رئيسا لجهاز أمن الدولة..
إكتشف أن عملية “حرق سيد فهمى” الذى جعله وزيرا للداخلية, هى مقدمة لحرقه هو شخصيا وقد كان رئيسا للوزراء وزعيما لحزب الأغلبية – حزب مصر العربى الاشتراكى – فرفع صوته فى الغرف المغلقة.. واجه “أنور السادات” بغضبه كرجل دولة يحترم مصالح البلاد!!
سمعت مصر اسم “ممدوح سالم” مقترنا بالإعلان عما سمى فى البداية “حركة التصحيح” قبل أن تصبح “ثورة كوبرى 15 مايو” عندما حلف اليمين كوزير للداخلية.. إستمر فى منصبه شديد الأهمية والخطورة, حتى أصبح رئيسا للوزراء وتولى تأسيس حزب “مصر العربى الاشتراكى” وقت أن اختار “السادات” ممارسة اللعبة على أرض ما قبل “ثورة 23 يوليو”وجعل لها عنوانا لا يختلف عليه اثنين وهو “الديمقراطية” التى مازال الشعب يبحث عنها حتى هذه اللحظة!! حقق وزير الداخلية نجاحات واضحة, رغم التحديات الصعبة والقاسية.. قبل وبعد حرب أكتوبر..
كان بينها مذبحة “الفنية العسكرية” التى أقدمت عليها واحدة من “الجماعات المفقوسة عن الإخوان”.. وكان بينها كارثة اغتيال “الشيخ الذهبى” المفزعة.. والأخطر كانت انتفاضة 18 و19 يناير التى جاءت فى ذروة إرادة “السادات” التخلص من “ممدوح سالم”.. لأنه كان يملك قدرات تؤهله للاستجابة لكل التحديات!!
لا يعرف كثيرون أن “ممدوح سالم” كان راهبا فى محراب الأمن ثم السياسة.. فهو لم يشغل نفسه بتكوين أسرة والزواج كغيره من الناس.. وقد لا يتذكر كثيرون أنه لم ينس جذوره – الإسكندرية – لدرجة نجاحه باكتساح فى انتخابات “مجلس الشعب” عن دائرة “كرموز” التى نجح معه فى تمثيلها خلال الانتخابات نفسها “أبو العز الحريرى” المعارض ممثلا لحزب “التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى”.. وقد جرت هذه الانتخابات فى ظل رئاسته للوزراء.. نجح خلالها رموز بارزين للمعارضة, بما جعل كثيرون يطلقون على هذه الانتخابات الأكثر نزاهة بعد “ثورة 23 يوليو”.. وسمح ذلك للمهندس “سيد مرعى” أن يتألق كرئيس لمجلس الشعب.. وأدى ذلك إلى بحث “السادات” عن طريقة للتخلص منهما معا!!
راجع مشهد ما بعد حرب أكتوبر.. وأستطيع أن أعرض لك عناوينه!!
يرأس الوزراء “عبد العزيز حجازى” بينما “سيد مرعى” ترأس “مجلس الشعب”.. وكان “ممدوح سالم” الرجل القوى – وزير الداخلية – فى النظام.. وجد ثلاثتهم أنفسهم فى صراع.. كل منهم يعتقد أن الآخر يحاربه.. فى الكواليس كان هناك من يزكى هذا الصراع ويشعل نيرانه..
أضعف الحلقات فى المثلث, كان “عبد العزيز حجازى” لاعتبارات القرب الشديد بين “سيد مرعى” و”السادات” بعد علاقة المصاهرة.. ولأن “ممدوح سالم” يقبض على خزينة الأسرار ومفاصل الدولة.. بلغت الأزمة بين “عبد العزيز حجازى” و”سالم” حد الصدام والمواجهة.. فوجئ “حجازى” بأن “السادات” ينتصر لموقف “ممدوح سالم” فجعله رئيسا للوزراء, الذى اختار “سيد فهمى” وزيرا للداخلية.. وكان “النبوى اسماعيل” مديرا لمكتب وزير الداخلية – ممدوح سالم – ثم أصبح مديرا لمكتب رئيس الوزراء – ممدوح سالم – لإيمانه بأنه يجيد فنون الانضباط والمتابعة الإدارية الدقيقة..
لم يلحظ “ممدوح سالم” أن مدير مكتبه – النبوى اسماعيل – فتح نافذة على رئاسة الجمهورية.. أدرك ذلك بعد أحداث 18 و19 يناير, حين كلفه “السادات” بإعادة تشكيل الوزارة.. كانت توصيته بإبعاد “سيد فهمى” الذى جعله مسئولا عن الفشل الأمنى, بما أدى إلى ضرورة استدعاء القوات المسلحة للسيطرة على الأوضاع..
أخذته الصدمة أن الرئيس يطلب بإصرار أن يكون “النبوى اسماعيل” وزيرا للداخلية.. هنا انتبه “ممدوح سالم” وتأكد أن اللعبة التى تخلص بها “السادات” من “عزيز صدقى” ثم “عبد العزيز حجازى” هى نفسها التى يسقط فى شباكها.. يرفض “ممدوح سالم” بوضوح, لكنه يقبل تنازلا بأن يتولى بنفسه وزارة الداخلية إلى جانب رئاسة الوزراء.. وأن يكون “النبوى اسماعيل” و”كمال خير الله” نائبين للوزير..
إعتقد أن “خير الله” الأكثر كفاءة سيصبح الوزير عندما تهدأ الأوضاع.. وجد أن “الطبخة” سبق تجهيزها, وأنه لا مفر من أن يكون “النبوى اسماعيل” وزيرا للداخلية.. وحدثت مناقشة بينه وبين الرئيس, حول أسباب رفضه ذلك.. قال أن “النبوى” يجيد كإدارى.. لكنه أضعف من أن يتحمل مسئولية الأمن فى البلاد فنيا ومهنيا.. وجد أن “السادات” متمسك بما يرى.. رضخ للأمر.. فوجئ بالخطوة التالية.. يستدعيه “السادات” ويخبره أنه يفكر فى العودة لرئاسة الوزارة, على أن يتولى هو منصب نائب رئيس الوزراء ومعه كل من “سيد مرعى” و”مصطفى خليل” على اعتبار أن المرحلة تفرض حكومة قوية!!
أصبحت الحقيقة واضحة.. عارية.. أمام “ممدوح سالم” الذى بدا عليه الغضب!!
تم تعديل العرض بأن يتولى “ممدوح سالم” رئاسة “مجلس الشعب” على أن يترك الموقع “سيد مرعى” ليكون نائبا لرئيس الوزراء مع “مصطفى خليل”.. ليحدث ما لم يتوقعه “السادات” عندما انفجر “ممدوح سالم” رافضا.. قال أنه يفضل أن يذهب للظل: “إستقالتى من رئاسة الوزراء جاهزة, وكذلك استقالتى من عضوية مجلس الشعب”.. بعد أن فهم ما يتم تدبيره لإبعاده!!
التفاصيل يحملها كتاب كبير المدافعين عن “السادات” بوضوح!
إعتمد “موسى صبرى” على براعته المهنية.. سقط فى بئر السذاجة السياسية.. حاول خلط الوقائع.. لكنه ذكرها بما لا يحتمل لبسا أو تشكيكا, وذلك يجعلنى أقول أن قراءته تحتاج تدقيقا.. فالمعروف أن “موسى صبرى” كان بارعا فى تغليف بضاعته بغض النظر عن جودتها!! لذلك سنجده يذكر أن: “السادات كان يرى أن حزب مصر لم يكن قويا لذلك فكر فى حله, وفى أن يؤلف برئاسته حزبا جديدا” ويضيف: “رأى السادات أن بعض أعضاء مجلس الشعب, بدأوا يتطاولون على شخص رئيس الدولة ومنهم كمال الدين حسين الذى أرسل برقية للرئيس.. كلها تهجم بما لا يليق معه مخاطبة رئيس الجمهورية”!!.. ويذكر بالنص: “قرر أنور السادات أن يفصل كمال الدين حسين من مجلس الشعب.. ثم تطاول الشيخ عاشور نصر على رئيس الجمهورية داخل قاعة البرلمان.. وهتف يسقط أنور السادات”!! وحدث كل ذلك لاعتقاد “السادات” أن “ممدوح سالم” ليس حاسما فى مواجهة المعارضة.. كذلك “سيد مرعى” الذى ترك النواب يقولون ما شاءوا!!
إنها “ديمقراطية الجمهورية الثانية” كما رسمها الرئيس!!
عندما “زمجر” رئيس الوزراء “ممدوح سالم” تراجع “السادات” خطوتين!!
كان يفكر فى “كامب ديفيد” ويعلق على “السلام” كل آماله!!
قرر بقاء الأوضاع على ما هى عليه, حتى يعود من الرحلة التى ستضيف إلى لقب “بطل الحرب” لقبا ووصفا جديدا اسمه “بطل السلام” ليكون مطلق اليد فى أن يفعل ما شاء.. يطبق “الديمقراطية” التى رسمها فى خياله.. وطوال هذه الفترة, كانت عجلة الزمن تجرى.. الأحداث تأخذ الوطن والشعب, إلى واقع شديد المرارة.. أزمة اقتصادية عاصفة.. مجتمع يغلى.. حقائق تتكشف.. صراع فى الكواليس يتصاعد.. مؤامرات يتم نسجها بعناية.. منافقون جدد جاهزون لدخول المزاد.. مخلصون تكاد قدراتهم العقلية تنهار.. أصوات الزيف صاخبة.. لا يملك الذين يفهمون وسيلة للشرح والتوضيح.. لأن الديمقراطية تفرض كلمتها.. لكنها “الديمقراطية الفاسدة” التى كانت قبل “23 يوليو 1952” وراجت معها بضاعة “الفراخ الفاسدة” و”المبانى الفاسدة” التى عبرت عنها السينما فى أفلام كثيرة بينها: “سواق الأتوبيس” و”المذنبون” و”السادة المرتشون” و”أهل القمة” و”إنتبهوا أيها السادة”.. كما قدمت الدراما “أنا لا أكذب ولكنى أتجمل” فيما قيل أنه غمز ولمز لواحد من أهم “رجال الكامب” الذى تألق حتى انتهى الرئيس المؤسس للجمهورية الثانية!!
يحمل كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” تفاصيل كثيرة!!
إعتقادى أن التاريخ ليس قصصا مسلية, يجعلنى أدلك على طريق المعرفة.. بعد أن أنصرف إلى رؤيتى حتى أبتعد عن طريق “أراجوزات التنوير” الذين احترفوا لعبة مشاغلة “الرأى العام” بما يسميه شعبنا “العصفورة”.. حين يتم اختلاق موضوع مثير لخطف العقل قبل العين.. ويتولى “جامعى أعقاب السجائر” ترويجه والحديث عنه بالطريقة التى أصبحت معروفة, وقت أن أصبحت “الجمهورية الثانية” مكشوفة.. عاجزة عن اختراق أى عقل, سوى “عشاق السادات” والذين تعجبهم حلقات الذكر فى “الموالد السياسية” على طريقة سيدهم ومولاهم “معاوية بن أبى سفيان” الذى حكم ما يسمى “دولة الخلافة”, على قناعة بأن “السياسة نفاق” وأن “الكذب طوق نجاة” لكل ساذج يقدر على خداع الذين يتعاطون هذا النوع من المخدرات!!
تخلص “أنور السادات” من “ممدوح سالم” ثم كان التخلص من “سيد مرعى” بطريقة مثيرة ومدهشة.. وقبلها كانت أحداث تستحق أن نذكرها!!.