والدي : حامد عبدالكريم سيد مفتاح ١٣٣٩ ـ ١٤٢٠هـ ( ١٩٢١ ـ ١٩٩٩م ) .. بعد صلاة الفجر اليوم ، وأذكاره وجدت ذكريات تترى ، ودموعا تسح وتسيح ، وقلبا كاد ينفطر .
وذلك عند تذكير الفيس لي بالجزء الأول من منشور عن والدي ـ رحمه الله تعالى ـ كنت قد نشرته من أربع سنوات ، في سلسلة “علم من بلدي ” فقلت أعيد نشره ؛ لعل دعوة صالحة ، أو كلمة طيبة من أحد من الصالحين تصيبه .
( ١ )
كان ـ رحمه الله ـ قليل المال ، غنيا بخُلُقه وحكمته .
كان أبوه وجده من عُمّار المسجد ، وكان هو من خدمه ، كان صوته في الأذان من أندى الأصوات ، حتى إنهم اختلفوا مرة في المسجد : من الأجمل صوتا في الأذان : هل حامد أبوعبدالكريم ، أوعبدالنظير أبوحسين ؟
[وكان أبوي عبدالنظير ـ رحمه الله ـ من أندى المؤذنين صوتا]
وكانت أم والدي عائشة عثمان ـ رحمها الله ـ من الشرفاء ( آل طياب ) ، وكانت من أنقى الناس سريرة .
كان والدي مع قلة ما يملك شاكرا حامدا ، فـ ” حامد ” اسم له ووصف ، فما كنا ننتهي من الأكل مرة إلا سمعته يقول ـ بعد أن يحمد الله ـ : ” اللهم ديمها نعمة واحفظها من الزوال ” ، وكم كنت وأنا صغير ـ سامحني الله ـ أتساءل في نفسي : ” أين الفخامة في هذا الطعام الأقل من العادي الذي يدعو والدي بدوامه وحفظه ( أستغفرك ربي من كل ما حدثتني به نفسي في هذا المقام)
أذكر ـ وقد رجعتُ بعد غياب ـ وانتهينا من طعامنا فنظر إليّ ، وقال : ” يا سلام على حلاوة اللقمة الليلة دي ، ربنا ما يحرم حد من حبايبه ” (كلما ذكرت هذا دمعت عيناي ).
رحمه الله لم يعطني كل ما أريد ، ولكنه أعطاني كل ما يملك ، وكنتُ أغنى الناس ، وأسعدهم بسيرته ، ومكانه بين الناس .
أيضا مع قلة ماله كان كريما جوادا ، فأذكر أنه في يوم جاءنا ضيف ، ولم يكن في هذا الوقت في بيتنا إلا طعامنا العادي ، فزاد والدي ـ رحمه الله ـ في الإكرام ـ من وجهة نظري ـ عن الشاعر الذي قال :
أضـاحـك ضيـفي قـبل إنـزال رحــلـه
ويـخـصـب عنـدي والـمحـل جـديـب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القِرى
ولـكـنـمـا وجــه الكـريـم خـصــيــب
وهذان البيتان يختصرهما القول الشعبي : ” لاقيني ولا تغديني ”
زاد والدي في هذا الموقف أنه لم يكتفِ بالبشاشة في وجه الضيف ويقول : “الجودة م الموجود” ، بل خرج فاقترض (استلف) ليكرم ضيفه .
أذكر أن رجلا ـ من مكان بعيد ـ لا داعي لذكره ـ ( من محافظة بجوارنا ) ـ نزل قريتنا على حمار يبيع جديد أواني النحاس والألمومنيوم ، ويشتري قديمها ، ودخل عليه الليل فأصرّ والدي على ألا يجعله يخرج من القرية في هذا الوقت ، واستضافه تلك الليلة ، وأصبحت عادة الرجل بعد ذلك أنه إذا نزل قريتنا لا بد أن يبدأ بأبي ، فيسلم عليه ، ويأخذ ضيافته طعاما ، أو مبيتا .
ومن الطريف أنه لما رأى الإكرام من والدي قال له مرة : ” نريدك أن تزورنا ، وإذا كنت قريبا واضطرتك الظروف فبيتنا بيتك بس انت انزل البلد ( مدينة ـ مركز لن أسميه ـ ) وقول : محمد أبو حسيبة .
فاغتظت وقلت لأبي : الراجل بيضحك عليك ، كيف يقول لك : انزل مدينة كبيرة وقول : محمد ، ده كل شبر في البلد فيه واحد اسمه محمد ، فقال ـ رحمه الله ـ : يا صابر أنا عارف والله ، يا ابني كل واحد بيعمل بأصله ” ، ثم حكى لي حكاية تؤيد وجهة نظره هذه ، ولن أطيل بذكرها .
ومع ذلك فقد ظل يقابل الرجل ويتعامل معه كما كان في أول لقاء .
موقف آخر أنه في أحد الأيام رأى رجلا غريبا ضعيف البصر في المسجد بعد صلاة الجمعة ، فدعاه للغداء فلبّى الرجل دعوته ، ولم يكن قد تبقى عندنا من لحم الخميس إلا القليل ، وليس هناك وقت ولا طريقة لإعداد طعام لهذا الضيف ، فوُضِع الموجود من الطبيخ ، وأكلنا إلى أن جاء وقت اللحم فوضع للضيف جُلّ ما عندنا في قطعة من الخبز ، ولم يتبق إلا النزر اليسير الذي كان من نصيبي ، ولأن الضيف ضعيف البصر فقد أخذ أبي ـ رحمه الله ـ يْرِي الرجلَ أنه يأكل لحما ، وهو يأكل قطعة خبز خالية من الزفر إلا رائحة الطبيخ .
رحمك الله يا أبي .
أشعر أني أطلت ، وللحديث بقية ـ إن شاء الله ـ تعالى ـ