منوعات

أشرف عبدالشافى يكتب: ودع هواك!

“سعاد” قبل أن تبلغ الرابعة عشرة كانت قد أصبحت امرأة.. امرأة صغيرة، نهدان صغيران قويان قاسيان متعاليان منتصبان بحيث يصعب الحفاظ أمامهما علي مهابة المأثورات والمواعظ الدينية.

فمن يملك أن يغض بصره عن هاتين الشفتين المغسولتين بالرغبة المتسابقتين علي طرقعة اللبانة بخفة ولوعة التأوهات، عن الواو التي تصنعها خصلة شعرها حول أذنها الصغيرة علي الحاجبين المقوسين بخبرة امرأة عرفت عالم الليل والضحكات والأسرار؟

الحاج فكري ــ منبع الحكمة بالنسبة لشارع الصناديلي كله ــ والذي يلجأ إليه الدائن والمدين، وقع في هذه المعضلة، فكثيرا ما كان يجد نفسه ــ هو المهيب بعباءته السوداء وعصاه الأبنوس ــ يتحين الفرصة كي ينادي عليها ويستمتع لحظة وهو يضغط علي كتفها أو يقرص خدها قرصة خفيقة ناعمة، بل كثيرا ما كان يهيئ نفسه ليقول لها بعد أن يدس في يدها قرشا لتشتري الأرواح “هاتي بوسة لعمو يابت” لكنه لم يفعل مطلقا، ربما لأنه كان يري تلك الحيلة مكشوفة وعارية أمام عيني سعاد الحارقة، وبعد أن تمضي لايكف عن توبيخ نفسه “اللهم أخذيك ياشيطان.. إيه اللي الواحد عمله ده” واكتشف أنه يردد نفس العبارة كل يوم تقريبا.

وسعاد لا تشبه شقيقتها فاطمة في شئ، بداية من الملامح وانتهاء بالذكاء والحضور، وربما كان تواضع المستوي الجمالي لفاطمة مقارنة بسعاد سببا في تلك الفروق الشاسعة بينهما، فمن يري سعاد في الحارة بعباءتها السوداء والإيشارب الأحمر الذي يحزم شعرها، وأحمر الشفايف الخفيف الذي يلمع علي شفتيها، لايمكن ان يجزم بأنهما شقيقتان، علي أن فاطمة التي حملت صفة “بنت بتاعة ربنا” كانت تتمتع بشعبية كبيرة حتي بالنسبة للكثيرين ممن لم يروها مطلقا فهي البنت الطيبة، الهادئة التي تساعد أمها وتحل مكانها علي الفرش إذا غابت لسبب أو لآخر.

الشقة الضيقة التي تتكون من غرفة واحدة مفتوحة علي أخري. لم تسمح لنعيمة بخصوصية تحافظ بها علي أسرارها عن ابنتها الفضولية التي ورثت عنها الدلع والخفة والاهتمام بالجسد ونظافته.

وتعرفت سعاد مبكرا علي “الملقاط” وجلسة أمها في قلب الشقة لنتف حاجبيها وتعرفت علي سحر ملمس تلك القطع الداخلية الصغيرة وهي تجمعها من فوق حبل الغسيل، سمعت آهات مكتومة وهمسات ليلية تحمل رائحة الأسرار والغموض وأحيانا كانت تنتظر سماع تلك الضحكات، تأتيها من خلف الباب المغلق غير مصدقة أنها تصدر من أمها! فما تحمله تلك الضحكات من خفة وعذوبة ودلع يبدو غريبا بعض الشئ علي أمها، ومن يصدق أن نعيمة التي ستقول فيما بعد لكل من ينصحها بالزواج ردا واحدا : مش عايزة راجل يدخل البيت علي بناتي”، والتي ستقف فيما بعد أيضا علي فرش خضار لتربيتهما.

والتي لن تتوقف طوال النهار عن إسداء النصائح بوجه عابس ووقور لابنتيها، والتي ستنال احترام أهل الحارة من كبيرهم إلي صغيرهم، تمتلك تلك المهارات الليلية؟

سعاد كانت تحب تلك القشعريرة الخجول التي تباغتها كلما كتمت أنفاسها وسمعت ذلك الرنين المنتظم لغوايش أمها مصحوبا بآهة خفيفة، ورجاء، ولهفة ومتعة أيضا، ورغم رحيل والدها وهي في الثالثة عشرة إلا أنها كثيرا ما رأت أمها تنتظره انتظارا خاصا، فهي تتعطر، وتبدو اكثر جمالا وهي تجلس بقميصها الأسود المكشوف أمام التليفزيون تطرقع اللب الأبيض في استمتاع، وفور أن يأتي تبدأ الاتفاقيات شبه الضمنية، فتدخل سعادة لتنام بجوار أختها التي سبقتها من ساعات.

وربما كان كل ذلك وراء عشق سعاد لصوت ضحكتها في تلك السن المبكرة، كانت تنتظر أن تبقي وحيدة في الشقة حتي ولو لساعة واحدة لتضحك ضحكات متنوعة، وتقلب في دولاب أمها بحثا عن سر ما، عن قميصها الأسود مثلا، وتجرب ارتداءه لتستمتع بذلك لحظة حتي ولو كان القميص مهلهلا عليها، ثم تعيد كل شيء إلي وضعه ثانية بحرص شديد، ومع السنوات بدأت سعاد تخطط وتخترع مشاوير لأمها وشقيقتها لتخلو لنفسها وتلبي دعوة جسدها في الحمام، تدندن بأغنية وهي تجهز ملابس جديدة، تعلقها في المسمار، وتسلت ملابسها بهدوء وتقف عارية لتضبط وقفتها أمام المرآة الكبيرة المعلقة فوق الحوض، تمرر إصبعها بتأن حول سرتها، تتحسس النتوءات المنزلقة خلف ركبتيها، تبتسم لأصابع أقدامها الصغيرة الملتصقة ببلاط الحمام، تجرب أن تلف سلسلة فضية باردة حول خضرها وتبتسم لملمسها البارد، تجرب الروج الأحمر علي شفتيها، والأزرق حول عينيها، تلقط شعرة زائدة هنا أو هناك ،تتأمل تحت إبطها واستدارة ذراعيها وغمازة كوعها ، تدلق ماء باردا علي نهديها ، تجرب أن تخبئهما في سونتيان فيطلان منه، تفرد شعرها علي كتفيها، تمشطه بأصابعها وتري نفسها أجمل في قٌصة “شادية”، تفتح الدش وينزلق الماء علي جسدها فتغني مع فايزة:”اخد حبيبي يا أنا يا امه.. اخد حبيبي يا بلاش..”

كلام البنات جعل سعاد تتيقن أنها الأجمل، أخذت منهن العديد من النصائح ولم يتبق في ذهنها سوي ما تتذكره الآن وتضحك:”أوعدي ولا تديش.. واضحكي ولا تناميش”.

نعيمة التي حصلت علي لقب “أجدع مرة في الحتة” لأنها ربطت بطنها علي ابنتيها “فاطمة وسعاد” وقررت أن تعيش لهما بعد رحيل مباغت لزوجها “شاهين متولي” سائق الأجرة، لم تكن في حاجة إلي خبرة لمعرفة ما يدور في عيون وأذهان الرجال تجاه ابنتها، بل إن الخوف والقلق حرماها من التباهي بهذا الجمال الذي يتحدث عنه شارع الصناديلي، وكثيرا ما كانت تلجأ لجارتها وكاتمة أسرارها النوبية الأصل “أم يحيي”:”البت فايرة يا اختي وأنا خايفة وماسكة قلبي بإيدي، طب وحياة النبي وانتي مش غريبة أنا النوم ما بيعرف طريقي طول الليل، كل شوية أقوم أبص عليها. وابليس ماسكني والعياذ بالله”.

وبعد أن تأخذ “أم يحيي” رشفة من الشاي أبولبن ترن معها غوايشها، تتنهد :”يا نعيمة يا اختي البت زي الفل وما حدش قال عليها كلمة كده ولا كده، وبعدين أنا قلت لك نخيطها من تحت وترتاحي م الحكاية دي خالص، انتي اللي مش راضية”.

ـ اخيطها؟! طب الكلام ده كان عندكوا زمان، لكن دلوقت اقول ايه؟ دي كبرت يا أم يحيي.. ياما نفسي اشوفها ف بيتها وارتاح زي ما ارتحت من فاطمة”.

ورغم رفض نعيمة لفكرة الخياطة، إلا أنها لم تستطع أن تمنع نفسها من “شمشمة” كلوتات سعاد وقصمان نومها أولا بأول، وأحيانا تسألها عن الدورة الشهرية ثلاث مرات في الشهر الواحد، وكلما وجدت قماشة ملطخة بالدم في صفيحة الزبالة تبتسم وتتنهد في ارتياح، وسرعان ما تتبدد فرحتها وهي تتذكر أن أمامها ثمانية وعشرين يوما علي الأقل حتي تري قماشة أخري ملطخة بالدم، ثمانية وعشرين يوما من القلق والحيرة والخوف، أنهت تقريبا كل اسطوانات التحذير والنصائح:”أوعي حد يبصلك كده ولا كده وتضحكي، أوعي حد يقولك تعالي نروح هنا ولا هنا وتروحي معاه..”

وفي كل مرة وبعد أن تنهي اسطوانتها تشعر بالندم، فلاشك أنها فتحت أمام ابنتها عالما سريا يغري بالدخول إليه، لذا لم تتكاسل جمعة واحدة عن زيارة ضريح السيدة زينب، تغرق بوجهها في الساتان الأخضر وتشم رائحة أم العواجز:”خليكي معايا يا ست، أنا من غير راجل، وحياة حبيبك النبي استريها معايا زي ربنا ما ستر عرضك ياطاهرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى