منازلُ العشَّاق تكونُ على قدر عشقِهم ، حيث التماهي بين ما هو رُوحيّ وبين ما هو جسديّ ، في صورةٍ حلوليةٍ واتحاديةٍ ، عبَّر عنها الحلاج شعرًا بقوله :
” أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن روحان ِحَلَلْـنا بدنا
فـإذا أبصرتـَني أبصرتـَهُ
و إذا أبصرتـَهُ أبصرتـَنـا ”
وعبَّر عنها شعرًا أيضًا ابن عربي بقوله :
( إذا ما التقَينا للوَداعِ حسِبتَنا
لدَى الضّمّ والتعنيقِ حَرْفًا مشدَّدا
فنحنُ، وإن كنّا مُثنّى شخوصُنا
فما تنظرُ الأبصارُ إلاَّ موحَّدا
وما ذاك إلاّ من نُحولي ونُوره
فلَوْلا أنيني ما رَأتْ ليَ مَشهدا ) .
فالعشق رُتبةٌ وكمالٌ إنسانيٌّ ، لأنه أمرٌ باطنيٌّ قبل أن يكون أمرًا ظاهريًّا ، والعشق لا يمكن له أن يتمكَّن من قلبٍ ما ، ما لم يكن قد حفر عميقًا في أرض الرُّوح – باطن الإنسان ، وعند ابن عربي وسواه من شيوخ العشق لا يكون الأُنس إلاّ بالجنس .
والعاشق الحق ابن القلق المعرفي ، إذا دخل على معشُوقه دخل بكُلِّه ، لا يترك منه خارجًا عن معشوقه شيئًا ، حيث في عالم الرُّوح تتساوى القلوب ، لا فرق بين مُحبٍّ ومحبوبٍ ، حتى يقول العاشق بلسان العرفان الصوفي : ” حدَّثني قلبي عن ربي”.
ففي العشق ” بين نعم ولا ، تطيرُ الأرواحُ من موادِّها ، والأعناق من أجسادها ” ، ومن يعشق لا يذوق الخَلَّ بعد العسل ، حيث يلزم بيتَ عشقهِ موحِّدًا لا مُكثرًا معدِّدًا ، ثابتًا على دين حبِّه ، لا متنقلا بين كثيرٍ من النساء ، إذْ إنَّ آفة الحُبِّ التعدُّد فيه ؛ لأنَّ ذلك وشبيهه لا يصيرُ في عُرفنا ومنطقنا ومذهبنا حُبًّا ، فمن آدم لم تُخلق إلا حواء واحدة .
والدين هو الحُب ، ذلك الحُب الذي يفجِّر الطاقات الرُّوحية والحسِّية لدي المُحب والمحبُوب معًا ، لأن النساء يقرِّبن المرء من ربِّه ، يقول الحديث النبوي : ( حُبّب إلى من دنياكم ثلاث : الطِّيب ، والنساء ، وجُعلت قرة عينى فى الصلاة ) .
والحُب أن تراعي كريم ذات من تحب ، وهو أمرٌ صار نادرًا في زماننا .
والإنسان يعرِفُ نفسه في الحُب ، ويدرك قدراته اللانهائية به ، فمن عرف من يعشق عرف نفسه بالضرورة ، والنفس تنصرفُ عن فعل الشُّرور إذا أحبَّت ؛ لأنها ستكون مشغُولةً بالتفكُّر والتأمُّل والخلق وحدُوس الذات ومُشارفة الأنوار الأسمى في عليائها ، حيث تحيا النفسُ حيواتٍ كثيراتٍ في اليوم الواحد ، ولا يصيبها أحدٌ في مقتلٍ ؛ لأنها مُحصَّنة ، وبصرها ممدُودٌ نحو الحُب الأعلى .
والمرأة تُحبُّ لذاتها ، فهي أهلُ ولايةٍ ، وهي من خواص الخواص ، وهي النقطة العليا في العشق ، وهي إحدى مراتب الوجود ، وهي عينُ الشَّمس ، ( تشرق الشمس إذا ما ابتسمت ) وقرَّة عين الرُّوح – في العمُوم – التي تُدرك بالقلب والبصيرة والعقل والأنفاس والشُّهود والأدلَّة ، يقول ابن عربي (558 هـجرية – 1164ميلادية / 638 هـجرية 1240 ميلادية ) في كتابه الأشهر ( الفتوحات المكية ) : ” جعل الله النساء زهرة حيث كُن، فإذا كُنّ في الدنيا كُنّ زهرة الحياة الدنيا ، فوقع النعيم بهن حيث كُن، وأحكام الأماكن تختلف ؛ فهن وإن خلقن للنعيم في الدنيا ، فهن فتنةٌ يستخرج الحق بهن ما خفي عنَّا فينا مما هو عالم ولا نعلمه من نفوسنا فيقيم به الحُجَّة علينا ” ، والمرأة هي من تثير في عاشقها فضائل المعاني ، لأنها الزهرة بألف لام التعريف ( تدخل لام التعريف على الأسماء ؛ كي تعرِّفها ، وتزيل إمكان اللبس في المقصد من الاسم المُعرَّف ) ، من تعطي الرائحة ، وتصير متنزَّهًا للبصر، والدليل على الثمرة في بستان الحياة الواسع الذي هو بستانها ، حيثُ تتعدَّد ألوانه ولذائذه ، و” هي التي تُخرِج كنزَه المخفي إلى الوجود ” .
وقد حدث هذا مع محي الدين بن عربي عبر مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن البجائي التي غيَّرت مجرى حياته (وقد أنجبت له ولديْن، وبنتًا اسمها “زينب” تُوفيت وهي صغيرة ) ، وقد ماتت مريم في حياة ابن عربي ، وهو القائل : (حار أربابُ الــــهوى / في الهوى وارتبكوا ). والمرأة ( النظام ) التي أحبها وهو في الثامنة والثلاثين ، ووصفها ابن عربي ، فهي المرأة التي يحلم بها العاشق وينتظرها ، وفي وصفها يقول : ( إن أسهبتْ أتعبتْ ، وإن أوجزتْ أعجزتْ ، وإن أفصحت أوضحت ، وإن نطقت خرس قس بن ساعدة ، وإن كرمت خنس معن بن زائدة ، وإن وفت قصر السموأل خُطاه ، وأغرى ورأى بظهر الغرر وامتطاه ) .