منوعات

نصر القفاص يكتب: مصر فى المصيدة!!

اعتقادى أنه سقط من الذاكرة الوطنية الكثير مما تحدث به “أنور السادات” فى خطابه أمام “مجلس الشعب” يوم التاسع من نوفمبر عام 1977.. وفى نهايته فجر قنبلته السياسية الخطيرة!!

التاريخ يجعلك تذكر قوله “إننى مستعد أن أذهب إلى الكنيست من أجل السلام” وقد نتذكر أن “ياسر عرفات” كان حاضرا دون أن يدرى “الكمين” المنصوب له.. سبق هذا الإعلان – القنبلة – حديث عن الجرح العميق الذى تعرض له الرئيس وأركان حكمه.. فقد كانت “انتفاضة 18 و 19 يناير” نقطة فاصلة بين ما قبلها, وما بعدها منذ أنطلقت “الجمهورية الثانية” تحاول هدم “الجمهورية الأولى” فى أقصر وقت.. ضغط الرئيس بأقصى سرعة لكى يعلن براءته من التعاون مع المعسكر الشرقى.. وكله أمل فى أن يثق المعسكر الغربى بصدق توجهاته بالرهان عليه.. صدمته أحداث “الفنية العسكرية” بعد شهور من انتصارات اكتوبر.. ثم صعقته جريمة اغتيال الشيخ “الذهبى” بعد شهور من “انتفاضة الحرامية” كما كان يصفها.. لم يعد أمامه غير تجاوز قدرات الدنيا – أصدقاء وأعداء – على التصديق والاستيعاب!!

قال “أنور السادات” فى هذا الخطاب: “فى 18 و19 يناير.. تخرج قلة ضئيلة تستغل الغوغاء.. ثم يخرج أو تخرج إذاعة دولة من الدول العظمى هى إذاعة الاتحاد السوفيتى وتقول, إن هذا أو هذه انتفاضة شعبية.. ماذا كانت هذه الأعمال؟! حريق.. محاولة حرق العاصمة.. حرق المجمعات الاستهلاكية, ونهب محتوياتها.. ونحن نشكو من التضخم ومن أزمة تموين.. حرق الأتوبيسات ونحن نشكو أزمة مواصلات.. حرق مرافق الدولة.. إذا كان فى عرفهم, وفى عرف عملائهم هنا هو انتفاضة شعبية.. فلا كانت أبدا.. سنواجه هذا بمنتهى الحسم والعنف.. لا يمكن أن أسمح لأى فئة أن تفرض على هذا الشعب, ما لا يرضاه أو تروج فى هذا الشعب المؤمن والذى يكون الإيمان فيه جزء من دمائه.. وعلى ذلك فقد سمعتونى فى الماضى أتحدث إليكم, وشجبت هذه الأعمال وقلت أن من لا إيمان له.. لا أمان له”!!

التوظيف السياسى للدين إعتمده “أنور السادات” كوسيلة لمواجهة اليسار – شيوعيين وناصريين – أطلق مارد كان يلفظ أنفاسه الأخيرة – جماعة الإخوان – فصدمته “الجماعات المفقوسة عنها” فى الفنية العسكرية واغتيال الشيخ “الذهبى”.. فضلا عن أن الأزهر فهم فتح هذه الإشارة الخضراء, بأن ترفع رايات تطبيق الشريعة الإسلامية بدعم من السعودية.. أدى ذلك إلى توتر مسيحى فرض على “البابا شنودة” التعبير عنه, وخلفه جماعات متطرفة لا تختلف عن غيرها من جماعات التطرف الإسلامى.. إعتقد “السادات” أن اتهام الطرفين بأنهم “مجانين” يمكن أن يجعل الشعب يلتف حوله.. فوجئ بأن كل طرف لجأ إلى جهات خارجية.. غربية وعربية لكى تحتمى بها.. عقد هؤلاء وأولئك مؤتمرات فى استراليا وكندا, واتجهوا نحو “البيت الأبيض” الذى كان قد أنهى تجهيزات التغيير الجذرى لاتجاه مصر.. ليس أمام الرئيس غير الرهان على أن يكون بطلا للسلام, وبذلك يجمع بين الحسنيين – الحرب والسلام – وإذا كان رهانه على الحرب قام على عاتق “القوات المسلحة” فإن الرهان على السلام بيد أمريكا – 99 فى المائة من أوراق اللعبة بيد أمريكا – وإذا كانت إسرائيل قد خسرت الحرب.. يمكنها تعويض خسارتها بالسلام!!

خطاب 9 نوفمبر قال خلاله “السادات” بوضوح: “أقولها الآن وأضعها أمامكم, لكى تسجل فى مضابط مجلسكم.. لن يوضع فى منصب أو فى أى مكان يؤثر على تكوين الرأى العام.. أو تكوين أفكار الشعب ملحد أبدا طالما أننى فى هذا الموقع.. ليس معنى هذا أننى أعادى أحدا.. أبدا.. أنا لا أريد أن أعادى أحدا.. إنما كما قلت لكم أنا حريص يوم أن أسأل, وأنا ولى الأمر هنا.. ماذا فعلت؟! حريص أن أؤدى الأمانة.. وأؤدى الرسالة.. أبدا لن أتركها ولو اقتضى الأمر أن أنزل بنفسى إلى الشارع لأقاتل.. إننا شعب الإيمان جزء من كياننا وتكويننا, ولا يمكن أن نسمح لأى قوى مهما كانت هذه القوى أن تزلزل هذا الإيمان كما حدث فى بلاد أخرى.. لن أسمح بهذا وأقوله بمنتهى الصراحة لكى يثبت فى مضابط مجلسكم, ولكى يكون سياسة واضحة معلنة.. لن يتولى فى هذا البلد منصب يؤثر على تكوين الرأى العام.. يؤثر على تكوين أجيال مقبلة.. لن يتولى هذا المنصب أى ملحد”!!
بوضوح.. أصبح من يختلف مع الرئيس وأركان حكمه “ملحد”!!

بوضوح.. أعلن الرئيس أنه مسئول أمام الله.. وليس أمام الشعب!!

بوضوح.. أكد أنه سيواجه من يختلف معه بمنتهى الحسم والعنف, وأكد: “لو اقتضى الأمر أن أنزل بنفسى إلى الشارع لأقاتل”!! وداعب العواطف بقوله أن: “هذا الشعب المؤمن.. من لا إيمان له.. لا أمان له” متجاهلا دراسة صدرت من “مركز البحوث الاجتماعية” تضمنت أن عدد ملاهى شارع الهرم زادت بنسبة 375 بالمائة بين عامى 1976 و1977.. وأن عدد الشقق المفروشة التى تشهد ممارسات غير أخلاقية زادت بنسبة ألف بالمائة.. وأن حوادث خطف الفتيات والاغتصاب زادت بنسبة 400 بالمائة.. لم يتوقف أمام إحصاء صادر عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون عام 1977, يؤكد أن عدد ساعات البرامج الدينية فى أجهزة الإعلام الرسمى بلغت 32 ساعة فى اليوم الواحد.. موزعة على الإذاعات ومحطات التليفزيون.. وتجاهل أن الجامعة الأمريكية نشرت دراسة إحصائية تقول أن عدد الصفحات الدينية فى الصحف والمجلات بلغ 120 صفحة فى الأسبوع.. وإن دار الكتب ذكرت أنه صدر أكثر من ألف كتاب دينى خلال العام.. تجاهل ما نشرته مجلة “الدعوة” التى تصدرها “جماعة الإخوان” وقالت فى عدد أغسطس 1977, تحت عنوان “هذا هو رأى الشعب يا وزير الإعلام”.. ونشرت أن التليفزيون يدعو للخيانة الزوجية عن طريق التمثيليات الساقطة.. وأن دولة العلم والإيمان مجرد شعارات”!!
كل هذه المعلومات والحقائق.. كان “السادات” يعلمها ويتجاهلها!!

فشل سياساته الاقتصادية لم يشغله.. غليان المجتمع لا يهمه.. فقد كانت “طبخة السلام” هى الأهم باعتبارها “طوق نجاته” والأمل الأخير فى إعادة “الاستقرار” لمجتمع راح يمارس “انفتاح السداح مداح” فى الاقتصاد والسياسة والثقافة وحياته الاجتماعية.. بل راح يمارس “إنفتاح سداح مداح” فى رؤيته للدين – إسلامى ومسيحى – لأن الرئيس والحكومة والبرلمان تعاملوا مع كارثة “الفنية العسكرية” على أنها حدث عابر.. ثم تعاملوا مع جريمة اغتيال “الشيخ الذهبى” وظهور “التكفير ةالهجرة” على أنه شأن أمنى يمكن لأجهزة وزارة الداخلية أن تتولاه بطريقتها.. لم يتوقف أحد أمام أخطر “مؤتمر دينى مسيحى” إنعقد فى استراليا, يناير 1977, ودعوة “البابا شنودة” إلى صوم انقطاعى لثلاثة أيام ما بين 31 يناير و2 فبراير لمناقشة ما أسماه المسائل القبطية.. ودخل على الخط قادة وزعماء أوروبا.. ولم يلتفت هؤلاء إلى مؤتمر “الهيئات والجماعات الإسلامية” الذى انعقد فى كندا, شهر يوليو 1977 برعاية الشيخ “عبد الحليم محمود” شيخ الأزهر!!

كان المجتمع يغلى.. أخذته صدمة يوم 3 يوليو 1977 حين تم إعلان: “نحن الجماعة التى يسميها الكفار جماعة التكفير والهجرة.. نعلن أننا اختطفنا الدكتور حسين الذهبى لأنه نشر مقالا ضد الجماعة يوم 30 مايو فى جريدة الأخبار الكافرة”!!.. فى الوقت نفسه كان الرئيس يواصل جولة خارجية, شملت كل من رومانيا وإيران والسعودية.. لوضع اللمسات الأخيرة على تفجير “قنبلة 9 نوفمبر” بمجلس الشعب!!

إنشغلت “النخبة” بملف “التكفير والهجرة” وناقشته!

شغلت المنابع الفكرية لهذه الجماعة, عديد من الصحف والمفكرين.. عرضوا ارتباطهم بأفكار “حسن البنا” وجماعته التى تلقى الرعاية من القيادة السياسية.. لكن “السادات” راح يطلق الرصاص فى الاتجاه الخطأ.. يسخر من شيخ الأزهر والبابا.. يهاجم “الملحدين” كما قال.. يتوعد اليسار.. واستمر فى هذا الطريق حتى اضطر للاعتراف بالخطأ, قبل اغتياله بأيام قليلة.. وأمام مجلس الشعب أيضا!!

القفز للأمام ليس أسلوبا تفرد به “السادات” فقط.. لكنه “منهج حكم” أخذ به كل من جاءوا بعده.. يصادفهم توفيق أو يخدعون به الشعب أحيانا.. ثم يجدون أنفسهم أمام حائط صد بلا مخارج.. يخادعون الناس ويخدعون أنفسهم.. يذهبون إلى مصيرهم المحتوم, ويتركوا الوطن والشعب فى قلب عاصفة.. ويستمر طرفى المعادلة – الفساد والإخوان – فى التحالف أحيانا.. ويضطرون للمواجهة فى أحيان أخرى.. كل مرة يحققون نجاحا بتعقيد الأزمة الاقتصادية التى راحت تكبر, بعد انتصار اكتوبر بأضعاف ما حدث عقب هزيمة يونيو 1967.. لأن “أولاد أمريكا” تمكنوا لدرجة جعلتهم أغلبية ومعارضة!! مع تمكين كل القادرين على “تزوير وتزييف” التاريخ.. كان مطلوبا شطب معنى “العزة والكرامة” من ذاكرة الشعب, للفوز بالرخاء والرفاهية.. قلبوا الحقائق لدرجة أنهم روجوا خطأ قرار “تأميم قناة السويس” الذى أعطى لمصر 35 مليون جنيه – أكثر من مائة مليون دولار حينها – سنويا.. بعد أن كانت لا تحصل على أكثر من مليون جنيه, بينما تنهب فرنسا وانجلترا 34 مليون جنيه.. إتهموا “السد العالى” بأنه سبب الخراب وقالوا أنه “منع السردين”!!.. إعتبروا أن الإصلاح الزراعى كان سبب تفتيت الأراضى الزراعية, رغم أن آخر رقم فى إنتاج القطن عام 1969, بلغ عشرة ونصف مليون قنطار.. تضاءل الإنتاج حتى وصلنا حاليا إلى 200 ألف قنطار فقط.. الأمر نفسه حدث مع القمح والأرز وقصب السكر.. تجاهلوا أن نصف مساحة مصر الزراعية كانت تتوزع على حيازات ملكية لأقل من ثلاثة أفدنة.. خدعوا الناس بعدم ذكر أن “الإصلاح الزراعى” استهدف بضع مئات فقط.. راحوا يدمرون “القطاع العام” بترويج أن الدولة فاشلة فى الإدارة.. لا يردون عليك إذا قلت لهم أن الدولة تدير “قناة السويس” منذ إعلان تأميمها!!

ماكينات “الكذب وتزوير التاريخ” تجاهلت وعود “أنهار السمن والعسل” التى تحدث عنها “السادات”!!

فوجئ “الرئيس” بأن وعود “أمريكا” كانت سرابا.. أهم نتائجها بوصول المليونيرات إلى خمسمائة مليونير خلال خمسة أعوام من رهانه على الاستثمار, ثم رحنا إلى ظهور “الملياردير” بينما الأغلبية الساحقة تتقاضى نحو 25 جنيها شهريا.. تحولت الحياة إلى نار تدفع مئات الآلاف إلى الهرب فى اتجاه دول الخليج التى تحتاج إلى هذه الكفاءات والعمالة للمساهمة فى بنائها وتحديثها.. فى الوقت نفسه كانت عجلات الإنتاج تتوقف.. بينما رياح السمسرة والرشوة والفساد, تدفع المغامرين إلى واجهة المجتمع وعبرت عن ذلك السينما بأفلام من نوعية “إنتبهوا أيها السادة” و”السادة المرتشون” و”أهل القمة” و”سواق الأتوبيس” وغيرها.. قبل أن يظهر “أسامة أنور عكاشة” ليدق أجراس الخطر من أن هذا طريق ستكون نهايته “الراية البيضا” وعرض الحكاية من الألف إلى الياء فى “ليالى الحلمية”.. تم منع أمثال “محمود عوض” و”كامل زهيرى” و”محمد عودة” وعشرات غيرهم من الكتابة فى مصر أو التضييق عليهم داخلها!!.. بدأنا نسمع عن استيراد بالمليارات, وتصدير ببضع ملايين.. ضاع صراخ الفلاح, وتم خنق أصوات العمال مع مطاردة الطلاب إذا فكروا فى التفاعل مع مجتمعهم.. تولت أجهزة الأمن صناعة نواب مجلس الشعب وكذا أعضاء مجلس الشورى.. وأصبحت مواقع المسئولية مرتبطة برضا هذه الأجهزة, باعتبارها وحدها التى تملك أن تجعلك عميد كلية أو رئيس جامعة.. كذلك تعطيك فرصة رئاسة مجلس إدارة شركة أو هيئة أو مؤسسة, قبل تصفيتها حسب دورها فى “الخطة السرية” المرسومة منذ أن راهننا على “الصديق الأمريكى”!! وفضح ذلك تقرير صحفى نشرته “روز اليوسف” بعد أحداث 18 و19 يناير جاء فيه: “عقد وزير الخزانة الأمريكى اجتماعا فى ديترويت يوم 24 مارس 1976, إنتهى إلى التأكيد على أن الاقتصاد المصرى يعانى أزمة عميقة.. وصل إلى حالة مستعصية, بحيث لا يمكن إنقاذه بأى عملية حقن مالى.. فقد وصل العجز فى ميزان المدفوعات لأكثر من خمسة مليار دولار.. وقفزت مديونية مصر إلى عشرة مليار دولار – كانت 2 مليار فقط عام 1974 – بما يجعل اليأس عنوانا للمستقبل!!

كانت النتيجة غضب على “عبد الرحمن الشرقاوى” و”صلاح حافظ” والمجلة كلها!!

إنتهى الأمر إلى إبعادهما وتنصيب المبشرين بالأوهام والسراب, لتهدئة الرأى العام الذى انفجر عندما وجد أن بلاده تشهد عملية تخريب ممنهجة.. وكلها كانت حرث للأرض وتعبيد طريق “السلام” الذى يمكن أن يدخل من خلاله وبه “أنور السادات” التاريخ.. أصبح السؤال فى مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية.. كيف نضمن عدم ظهور “ناصر” جديد فى مصر؟! وانتهت إلى إجابة قاطعة.. حاسمة.. واضحة.. بأن يتم ربط مصر بإسرائيل فى معاهدة تضمن خروجها من مجالها الحيوى.. ثم كان ما حدث – واستمر – طوال السنوات التى سيطرت خلالها “الجمهورية الثانية” ومساعدتها لتجاوز ثورتى 25 يناير 2011, و30 يونيو 2013.. لتبقى على الخط الأمريكى المستقيم!!..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى