لم أزر قريتنا النائية “كفر عجب” منذ عشرين عاما. هي قرية ملقاة في نهايات الصعيد الجواني وعيت على الدنيا بأحد بيوتها لأتعلم ثلاث كلمات “أبا” و”أما” و”بشتوني”.
أتممت عامي الثامن وأنا أحفظ بلغة وعقلية وتهويمات الأطفال معجزات هذا الرجل. كان والدي رحمة الله يصنفها هكذا -معجزات- معددا مآثر الرجل التي جعلت رهطا غفيرا من أسر القرية يفخر بأنها عاصرته أو عاصرت أبنائه. هم امتداداته الجينية التي حملت لقبه وانتسبت إليه.
زار بشتوني القاهرة أول مرة عام 1919 .. لحسن أو سوء طالعه ألقت قوات الاحتلال البريطانية القبض عليه قرب ميدان الإسماعيلية – التحرير حاليا- لا لاشتراكه في ثورة الهلال والصليب وإنما لأنه كان يقوم بعملية إحصاء رقمي وبصوت عال خلال سيره على الكوبري الأعمى -الجلاء حاليا-، دافع هو حين عاد للقرية بعد إطلاق سراحه: “أنا ما أذنبتش كنت بشوف طول الجسر -سماه جسرا- بيساوي كام خطوة برجلي. عديتهم ستة وسبعين خطوة”.
من وقتها وكل زوار العاصمة من أهالي بلدتنا يسألون قبل كل شئ عن كوبري الستة وسبعين ..يحدث هذا في أولى زياراتهم للمكان. مع رجوعهم للبلدة يمتنعون عن تصحيح اسم الكوبري. يحافظون على تراث بشتوني كما لو كان أغلى من أطيانهم نفسها.
كانت للمغفور له قياساته الزمنية الخاصة به. يخبرك في سرعة الهدهد السليماني كم تستغرق المسافة من جنوب القرية حيث فرشة أم رقية بائعة الليمون إلى شمالها المميز بنخلة عوض الله والتي قتلت تحتها العفاريت مسافرين وتائهين أكثر مما قتل المطاريد. قال يوما لجدي: البلد كلها من الشمال للجنوب تلتلاف رجل -يقصد عدد خطوات ساقيه السامقتين اللتين قاس بهما تلك المسافة-، ومن شرقها لغربها تلتلاف زيهم ورجلين -خطوتان- .
بشتون كان يضع في الاعتبار العوامل الجوية والجيولوجية التي قد تجعل من السير على الأقدام وعمليات العد بالمشية والإحصاء بالحركة شبه صعبة كالأمطار والريح والغبار وكم النقر أو البروزات والمطبات التي قد تصادفك خلال قياسك للطريق، لهذا تجده دائما يضيف عدد خطوة أو خطوتان فوق “البيعة”.
تدمع عينا حفيده عالم الفيزياء الشهير دكتور سعيد بشتوني كلما تحدث عن أفضال جده الأعظم “لولاه ولولا مروياته لما أحببت نيوتن وماكس بلانك وميكانيكا الكم. طيفه يساندني في كل محفل دولي وروحه تشاركني كل ورقة بحثية أعدها. لو أن هناك إنصافا يا جلالي بيك -يمنحني اللقب دون أن أطلبه- لمُنح جدي جائزة نوبل في الفيزياء مناصفة مع حفيده. أنا”….
بشتوني كان مولعا باللعب.. يرسم في مخيلته كلمة ولتكن “جرجير” يبدأ بعدها بالسير في فدانه الوحيد وحصد ثمار النباتات لتشكل الفراغات شكل كلمة جرجير. يراها الأطفال من فوق أسطح منازلهم القريبة. أول طفل يتعرف على الكلمة ويلحق بعم بشتوني قبل أترابه من المتسابقين ويبلغه إياها يحظى بجائزة. ما الجائزة؟ غالبا ما تكون معلومة رياضية يحدد بها الرجل للصبي أو الصبية الفائزة كم من الخطوات تلزم للوصول إلى الترعة الكبيرة شرقي القرية أو أقله ينفحه قالبا من حلوى “الجلاب” المصنعة منزليا.
مع اندلاع ثورة يوليو 1952 قبض على العم بشتوني للمرة الثانية. تقدم العمر به وقتها لم يمنعه من محاولة قياس طول كورنيش الأسكندرية انطلاقا من بدايته حيث منطقة قصر رأس التين ونهاية بأخره قبل حي الشاطبي. لاحقا وفي التسعينيات تم مد الكورنيش للشاطبي والمنتزه. أوقعته مصادفة سوداء في يد الحرس الملكي الذي اعتبره أحد مبعوثي الثائرين الجدد. لسوء الطالع كان فاروق الملك يقف في شرفته -يحكي عجائز القرية ومسنوها- يزعق وقد استشاط غاضبا: “ارموا الجاسوس دا في القبو”.
وصف بشتوني لأبنائه وهؤلاء لأحفاده كيف كان يستعين بقدراته الإحصائية لتزجية الوقت ومقاومة ظلام السجن -المخفف بضوء مصباح بعيد- تحت القصر بعد الفئران اللاعبة والخائفة مثله داخل الزنزانة فأرا فأرا. نطقت إحدى العرس -وهي حيوان صغير الرأس لدن بلا عمود فقري . سوداء في أكثر الأحاييين.ذات طبيعة جبانة ميالة للفرار كلصوص شون القمح-نطقت مخاطبة بشتوني السجين: متخافش يابستوني -قالتها بالسين لأنها لثغاء- هتخرج وهدلك على كنز دهب خبيته امبارح في خرابة في كرموز”.
لم يمكث بشتوني في قبوه المعتم إلا يومين. ركب أخر حكام الأسرة العلوية باخرة المحروسة منهيا عهد بدأ بتاجر تبغ ألباني يدعى أفندينا. ركب بشتوني القطار ونسي أو تناسى إلى حين قصة الكنز المخبأ. البعض ممن وغرت صدورهم من كارهيه أكدوا هامسين أنه عثر عليه وأخفاه عن الأنظار.
المرة الأخيرة التي شوهد فيها بشتوني قبل “مقتله” كانت في العام 92 حين زلزلت الأرض وأفتى بعض المجذوبين ب”حرمانية” السير في دروب البلد قبل صلاة الفجر لأن “الثور الذي يحمل الأرض فوق رأسه والمسؤول الأول عن الهزات الأرضية يعيث فسادا في هذه الأوقات ناطحا أي فرد”.
رأى بشتوني، وكان شغوفا بالإقدام وتحدي الخرافات، أن يخالف الكل ويجابه موروث الرعب الاجتماعي. قرر اجتياز كل حارات القرية ومزارعها مغمضا عينه. راهن نفسه: “لن أفتح عيني إلا مع المرة المليون. مليون خطوة وعيني مقفلتان”.
استنتج أبناء كفر عجب سببا واحدا لاختفائه “لقد لمحه الثور” “راح الراجل بسبب غبائه وعناده”.
عند شجرة الجميز العتيقة في منتصف القرية حفر شخص ما منذ زمن مديد الكلمة “مليون وخطوة”.
يبتعد السابلة والمارون عن نفس الشجرة إذا ما غربت الشمس “هناك لا زال عفريت بشتوني يعد ويعد ويعد أرقاما” ..يزعمون