عندما سمعت في منتصف التسعينيات عبارة “احنا في زمن اخطف واجري” ينطقها بطل أحد الأعمال السينمائية عن عصر السادات.
عرفت أن هذا العصر كان مخيفا وأن أي شخص كان قادرا ما دام يملك حيل اللصوص وقطاع الطرق والسمسرة أن يسلب الهرم نفسه واضعا إياه في كيس بلاستيكي أسود ويغادر دون أن يلحظه أحد. لا هو ولا الهرم.
بالمناسبة مثل الراحل محمود ياسين فيلما يتحدث عن نفس الفكرة بعنوان “وقيدت ضد مجهول” انتقادا لزمن الانفتاح.
عندما شاهدت مؤخرًا – بعد نحو ثلاثين عاما من عبارة البطل المذكور- شابا نحيلا يرقص فوق سطح منزل مبلط بقطع من السيراميك المختلفة أشكاله والمقزز على الصعيد الجمالي، ويبرطم بلغة غريبة وكلمات لم تصادفها الأذن حتى في أحراش تنزانيا، أدركت أن المسألة متصلة، وأن فكرة اللصوصية وقطع الطريق والركض وراء شهرة سريعة وبالتالي ربح سريع سواء معنوي أو مادي لا زالت تلقي إلينا بأمثلتها الحية.
قال الراقص والذي كان أداؤه الراقص -في الفيديو- سيئا وكادت تميد به الأرض لأنه “اتكعبل كذا مرة واتزحلق كذا مرة-: انتش واجري.
بالبحث في القاموس تبين ان فعل “النتش” يرتبط بنتف الشعر أو أن يعيب الإنسان صديقه في غيابه أو استخراج الشئ وجذبه. أو بالمبالغة في وصف الأمور، لكن المعنى الشعبي المتعارف عليه هو السرقة بأسرع ما يستطيع المرء والتي لا بد وأن تقترن بفعل الهروب استكمالا لإنجاح عملية السطو.
هتف الناتش في نهاية الفيديو: حسام اخويا هو اللي معايا وطلعني مشيرا إلى السماء، مرسلا إلى مشاهديه رسالة إنه وبفضل مقطع تافه واحد صنعه من خراء الكلمات والاهتزازات انقلب إلى “أمير الغناء العربي” أو “ملك الراب” أو “امبراطور فن البوب في نيروبي”
من يعلم كم من أبناء الجيل الذي ولد في بداية هذه الألفية سينظر هذه النظرة الإعجابية إلى رجل السيراميك “الملخبط” هذا؟. اعتقد هناك من سيفعل. ويوازي هؤلاء ويقابلهم كنوع من الاتزان المأمول أخرون -لم يكملوا بعد الخامسة والعشرين من أعمارهم- انبهروا بأغنية بهاء سلطان “طالعة في دماغي” وقام البعض منهم بغنائها وبث ما غنوه على التيكتوك واليوتيوب.
هنا لدينا جمهوران. الأول عصبة انتش واجري، يبحث عن أي كائن غريب لديه شبق للتريند وجاهز لفعل أشد الأعمال قبحا “عشان يبقى فوق ويطلع فوق” والثاني بهائي يتذوق الألحان ويتمتع بأغنية سلطان -وهي من وجهة نظري أكثر من رائعة تستوقفك لتسمعها مليار مرة ولا تمل بل تنتشي مع كل استماع لها- وبمثيلاتها اللاتي يعتمدن على علم وفن موسيقى وموهبة وإحساس عبقري. يظهر حسام -شقيق الراقص على السيراميك- في أول الفيديو مقدما إياه: اسمعوا الفيديو -ينطقها بالفاء لا بالڤاء بس يعني هتفرق ما هو من جملة- ويجز هيمثل مايكل جاكسون. تسمع فلا تجد هذا ولا ذاك.
هذه الأنماط من الباحثين عن الصعود السريع ليست وليدة الأمس. أذكر أن الراحل يوسف شاهين أخرج فيلما عنهم باسم “سكوت هنصور” يقارن فيه بين فكرتين.
الإبداع القائم على تراكم وخبرات فنية وموهبة مصقلة بالتدريب متمثلا في بطلة الفيلم “الفنانة لطيفة” وبين شاب يعتمد على “الأونطة” و”النتش والجري” وفن اللقطة والتسلق على أكتاف الأخرين.
تنبه شاهين في بداية الألفية إلى هؤلاء الذين ينجحون، لا بالتعب وسهر الساعات والكد والمحاولة والخطأ والأمل حتى بلوغ المرام، وإنما يرتفعون فجأة ويهبطون فجأة. سماهم شاهين في فيلمه “نجاح التيك أواي واهو كله أوام”.
لا يتوقف “التيك أواي وأهو كل أوام” أو “أنتش واجري” عن إظهار مسوخه وتشوهاته في كل لحظة. قبل شهور أو ربما عام -لا تسعفني ذاكرتي- كان هناك الصبي الذي يبحث عن فتاة باسم شيماء تبين في النهاية إنها إوزة أو بطة أخفاها صديقه الميكانيكي أسفل سيارة قديمة مهجورة.
قبل عامين أو ثلاث أصابت عدد من المشاهير “فرة” جعلتهم يتركون عرباتهم تدور بينما يطاردونها هم. عرف هذا بتحدي “الكيكي”. الشئ الأجمل أن كل ثقافة “التريند” أو “التقليعة” لا تستمر للأبد. ينسى المستمعون والمشاهدون بعد فترة ولا يبقى إلا الأصيل والنقي والبديع و”المتعوب عليه بجد” أما التفاهة وفوضى السيراميك فمآلها العدم.
سيتذكر مواليد الثمانينات ما أتحدث عنه. إصيص يسقط على رأس شخصية الرسوم المتحركة “بطوط” خلال سيره مع صديقته “زيزي” ليتحول بعدها هو إلى أشهر وأعذب مطربي المدينة.
ينسى بطوط صديقته. يعاملها بجفاء حين تسعى للقائه. لا يمنحها حتى ثانية واحدة لمخاطبته. تتسلل هي إلى كواليس المسرح. وتُسقط إصيص أخر فوق رأسه فيعود كما كان. صوت نشاذ مزعج.
يضربه الجمهور بالطماطم والبيض وتنتهي أسطورته الغنائية. الفارق أن البعض لا يحتاج إلى صوت عذب كي يعلو.