ليس هناك غير أن تنحني إجلالاً وتقديراً لشيخ العلم الأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي، وأنت تستمتع بكل الإبهار الذي يكبلك به بحروفه وعباراته، وخطابه المؤسس لتصورات ينبغي أن تضعها أمامك وأنت تتعاطى مع موروث متراكم ومتراكب وراسخ رسوخ جبال الماضي؛ وجاثم على العقول.
في هذه الإطلالة الجامعة الماتعة يقلب شيخنا كثيراُ من مستقرات أذهاننا ونحن نتعاطى معها كمسلمات لم نتفكر حولها؛ ولم نقم بخُدش زجاجها الذي نرى إلى ماضينا من خلاله، فنظل أسرى مفاهيم وصور ذهنوية تبدو حقائق مغلق أبواب استدعائها لمساءلتها في عالم خطاب ثقافتنا المهيمن؛ وهو الشعر والشعراء الجاهليين والعباسيين والأمويين وجلهم رموز!
عبر اصطلاح “الغواني” بكل دلالاته المهيمنة تعبيراً عن نسق أخلاقوي مكروه؛ يفيض عقل أستاذنا بقراءة منقبة في حقل المسميات والألقاب المهيمنة بظلالها على التصورات المستصنعة تاريخويا ليعيد ابتناء الصورة من جديد؛ فالغانية في الحقيقة ليست كما استقر في الأذهان؛ مقدما من الأدلة ما يهز قناعتنا.
إذ أن الصورة الذهنوية المعممة في ثقافتنا العربية للغواني مؤسطرة بدوافع قيموية لها قصدياتها؛ فالغانية ليست ” المرأة التي غنيت بمالها وجمالها عن غيرها، فصارت مخدومة لا خادمة، ومرغوبة لا راغبة. وهي ذات تدلل ونفوذ وسلطان هيأ لها التسلط على قلوب الناس وعقولهم”.
وهذا وفق النسق السياسوي للمجتمعات العربية رسَّخَ دوراً مهماً للغواني لذلك وفق قول شيخنا:” كان الخلفاء العباسيون يحرصون كل الحرص على حيازة الصفوة من الغانيات نوعا وعددا”.
وهي أيضاً: ” امرأة ذات نفوذ، ومقدرة على التحكم وتغيير المسارات، يرفضها الفكر المحافظ، وتنبذها التقاليد، ويأباها العرف، ويهجوها علية القوم، وكبار الوجهاء في العلن، ولكنهم مع ذلك لا يفرطون فيها، ولا يعيشون بغيرها لأنها تشبع الوجه الآخر من وجوههم”.
ويوالي شيخنا الكبير رصد الظاهرة في عالم الشعر والشعراء بعد المنادمة الشائعة؛ فيدعو إلى مطلب لا فكاك منه بوجوب ” التفتيش عن ألقاب الشعراء والمفكرين والكتاب في تاريخنا”. مؤكداً أن “صريع الغواني” لقب التصق بشاعر هو مسلم بن الوليد الذي لم يكن من أهل الجاه والسلطان، ولا من أهل اللهو والمجون مثل الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع، ولا حماد عجرد ولا والبة بن الحباب، ولم يكن شاعرا ذا رؤية فكرية فلسفية مثل أبي نواس الذي عاقر الخمر وتغنى بها، وتغزل بالجواري والغلمان، واطمأن لإبليس ومدحه واستفتاه”.
وكذلك الأمر بالنسبة لأبي العتاهية الذي عُرف “بأنه شاعر الزهد لكونه كتب شعراً كثيراً في التهوين من شأن الحياة، والتعظيم من شأن الموت، والتنبيه إلى مصير الحياة والأحياء. وحقيقة الأمر أنه ليس من الزهاد وإن تفرغ لهذا اللون من الشعر”.
وبذلك فدعوة الأستاذ الدكتور أحمد يوسف واجبة بضرورة القراءة الفاحصة من جديد وفق مقولته:” قد تبين لنا… أن تاريخ الأدب بما فيه من مواقف وأحكام لا يخلو من تحيز، ولا يخلو من مغالطات. ولنا أن نتناول أحكامه ومواقفه بحذر وبصيرة وانتقاد، وألا ننقاد وراء ما هو متواتر وذائع بين الناس وعلى صفحات أمهات الكتب، وألا تخدعنا الأسماء المشهورة قديما وحديثا فنصدقها ونسلم لها عقولنا”.
سلمتم شيخنا الجليل بهذا القول؛ ولعلها دعوة واجبة الضرورة للباحثين الشباب كي يطبقوا هذا النهج في دراساتهم الأكاديموية بإعادة قراءة المستقر المهيمن في هذه الموضوعة اقتداء بما ذكرتموه.