إرتبك مؤسس “الجمهورية الثانية” بقدر ما فعل لإرباك الشعب وكل من حوله.. كشف له ما حدث خلال عامى 1971 و1972, أن “شجرة 23 يوليو” طرحت طلائع نخبة تدافع – وتقاتل – عنها حتى ولو اختلفت معها أو اصطدمت بها.
فوجئ بأنهم يملكون أسلحة الثقافة والمعرفة والفكر الحديث.. قرر “أنور السادات” أن يسخر منهم فأسماهم “أفنديات القاهرة” ليخلق بينهم وبين الشعب فجوة تفقدهم تأثيرهم!
إندلعت المعركة بينه وبينهم.. واستمرت حتى بعد رحيله!
حاول الرئيس الثانى – حسنى مبارك – استيعابهم أو ترويضهم.. نجح أحيانا وفشل أحيانا أخرى.. ساعدته “واشنطن” مع عواصم غربية, بإعادة تأهيل بعضهم للدفاع عن “الجمهورية الثانية” عبر تزييف التاريخ وتشويه وجه الحقيقة للجمهورية الأولى, مع التركيز على محاولات الاغتيال المعنوى لقائدها وزعيمها.. حتى وصلنا إلى مرحلة احتقار الثقافة وإذلال الإعلام مع تهميش السياسة وجعلها “كلام فارغ”!!
فرضت “طلائع النخبة الجديدة” نفسها, وتوهجت أسماء مثل: “محمد عفيفى مطر” و”عبد الحكيم قاسم” و”أمل دنقل” و”إبراهيم أصلان” و”مجيد طوبيا” و”خليل كلفت” و”إبراهيم منصور” و”جمال الغيطانى” و”سيد حجاب”” و”جميل عطية” و”محمود دياب” و”صبرى حافظ” و”صلاح عيسى” و”عبد الرحمن الأبنودى” و”فريدة النقاش” و”صافيناز كاظم” و”رأفت الميهى” و”أحمد عبد المعطى حجازى” و”سمير فريد” و”صلاح عبد الصبور” و”رضوى عاشور”.. إضافة إلى قائمة طويلة أذكر بعضهم, وأعتذر لكثيرين منهم.. لكننى فقط أردت الإشارة إلى الحقيقة بأسماء بعضهم, وكلهم حاولوا مواجهة السيل الجارف لتغريب المجتمع.. إذا لم تنجح محاولات تسطيح عقول أجياله الجديدة!
يجب أن نعترف أن رهان الذين حكموا “الجمهورية الثانية” كسب فى جولات عديدة.. لكنهم أخذتهم صدمة ما حدث فى “25 يناير 2011” ثم “30 يونيو 2013” حين تأكد لهم أن الوعى ما زال كامنا فى أعماق مجتمع يتنفس ثقافة بقدر ما يقدس “نهر النيل” باعتبار أن مصر “هبة شعبها” الذى يحير الجهلاء والسفهاء!!
غاب “جمال حمدان” وترك لنا “شخصية مصر” لكل من أراد أن يفهم!!
رحل “أنور عبد الملك” وترك لنا “المجتمع المصرى والجيش” بتفسير علمى!!
ترك لنا “حسين فوزى” إبداعا شارحا للشخصية المصرية فى كتابه “سندباد مصرى” وهو دراسة عميقة وشاملة.. إحتفى بها المثقفين والقراء بصورة غير مسبوقة عند صدور الكتاب عام 1961.. وينحاز الدكتور “أنور عبد الملك” لهذه الدراسة – الكتاب – لدرجة أنه يراها أفضل كتاب صدر فى مصر المعاصرة.. وكل هذه الكتب سنجد أنها اختفت, على يد “حانوتية الثقافة” الذين دفنوها واعتقدوا أن الأفكار يمكن أن تموت.. أو أن قبضة الأمن يمكن أن تخفيها أو تقتلها.. وهذه سذاجة مفرطة, وجهل يتمتع به الذين تعبوا فى أن يجعلوا جهلهم “ناطحات سحاب” يستحق الفخر به!!
يأخذنا الدكتور “حسين فوزى” وكان عميدا لكلية الإعلام, وشغل منصب مدير عام بوزارة الثقافة فى منتصف الخمسينات.. له دراسات فى التاريخ والموسيقى وعلم الاجتماع.. لذلك يسهل عليك أن تغوص معه فى أعماق المجتمع والشخصية المصرية.. حاول أن تقرأه – لو وجدته – وهو يؤكد: “مصر لم تعرف فى تاريخها الطويل عهدا مظلما كما شهدت منذ سقطت فى أيدى السلطان سليم العثمانى.. فقد عاشت مصر قهرا وتخلفا غير مسبوقين اعتبارا من يوم “الجمعة الحزينة” فى عام 1517..
واستمر ذلك حتى أشرق فجر القومية المصرية بثورة 1919.. وهو يرى فى كتابه أن فترة الاحتلال العثمانى إحتقرت الثقافة.. وحاولت قتلها.. لكنها فشلت بظهور “محمد على” وما حدث بعده من تطورات حين ظهرت شخصية “أحمد عرابى” حتى كان ترويض النهر – السد العالى – وعلى امتداد هذا التاريخ تبرز أبعاد الشخصية المصرية.. أولها سنجده فى ارتباط الفلاح بالأرض والرى والزراعة.. كما نراه فى نظرته للعمدة وشيخ البلد, وصولا إلى السلطان الذى يحكم عند رأس هرم السلطة.. ويرى أن البعد الثانى لهذه الشخصية هو نتاج التاريخ السياسى..
ثم يأتى احتفاظ المصريين بتقاليدهم الاجتماعية ونظام الحكم الذى يرتضونه.. وضمن أبعاد وأعمدة هذه الشخصية يأتى البعد الروحى..
ثم تأتى النكتة والتمسك بالأمل عند الضيق.. فالمصرى الذى يقول لك “يفتح الله” يقصد رفضه لما تعرضه عليه.. وهو إذا قال “صلى على النبى” فمعناه نبدأ الفصال.. ولو قال “على الطلاق” معناها لا تصدق أى شىء أقوله بعدها.. وحين يقول “يا فتاح يا عليم” فهذه علامة على أن أول القصيدة كفر.. وإذا أرادك أن تبعد عنه يقول “إتوكل على الله”.. ولك أن تفهم كلامه إذا قال “دستور إيه يا عم.. الله يخليك” لأنه يقصد شبعنا كلام!!
يؤمن الدكتور “حسين فوزى” بأن الشعب المصرى يواجه البؤس والشقاء بصناعة الحضارة.. وهو يفرضها على حكامه إذا اقتنع بهم.. لذلك ستجده يبنى الأهرام ويبدع فى العمارة وحفر الترع وبناء الخزانات والرسم على الحجارة.. وللفن عند المصريين مكانه مرموق, ترقى لأن تكون فى صدارة اهتمامه..
وعلى هذه الخلفية تتكون نظرته للدين – إسلامى ومسيحى – الذى يراه الإنسان فى مصر حالة بحث عن الحقيقة.. والمصريون يرتبطون بالإسلام والعروبة إرتباطا يضع فى اعتباره أن اللغة العربية هو عنوانهم الفكرى والثقافى, مع كل التقدير للتاريخ الذى سبق ذلك.. لذا سنجدهم يتعاملون مع ماضيهم السحيق بتقدير يصعب فهمه على غيرهم.. ومن هنا نعرف قيمة التاريخ عندهم.. فهو ليس هامشا ولا قصص مسلية للأطفال.
كما يعتقد “جامعى أعقاب السجائر” وقد لمس ذلك “أسامة أنور عكاشة” فى “ليالى الحلمية” عندما أبدع شخصيتى “بسة والخمس”.. وأخذهما من المستنقع – الفقر – إلى “مستنقع الثروة”.. وأكد المعنى نفسه فى “الراية البيضا” من خلال صراع “فضة المعداوى” مع “مفيد أبو الغار” واختيار الأسماء عنده لم يكن صدفة..
فقد جعل الجهل يمكن أن يكون “فضة” فقط.. وجعل العلم والثقافة “مفيد” والتدقيق فى الأسماء التى اختارها لأبطال أعماله, ستجدها ذات معنى ودلالة.. والمؤكد أن المقاومة السلبية عند المصريين لا تقل أهمية عن المقاومة الإيجابية.. فهذا شعب قادر على التغيير بالانصراف عن الحاكم, كما يقدر على فرض التغيير بالثورة.. وبينهما تكون الحقيقة غائبة, فيحدث أن تتعطل البوصلة أحيانا!!
الذين قرأوا “نجيب محفوظ” سيتأكدون أن وعيه وفهمه لهذه الحقائق.. إضافة إلى إيمانه بها, جعله يقدم “اللص والكلاب” و”الطريق” و”حديث الصباح والمساء” إضافة إلى “ثرثرة فوق النيل” وكذلك سنرى المعنى نفسه عند “يحيى حقى” و”عبد الرحمن الشرقاوى” وصولا إلى شعر “أحمد فؤاد نجم” و”عبد الرحمن الأبنودى” غير العشرات من الذين كتبوا الرواية.. ثم ظهرت الأغنية لتحكى ما حدث خلال عمر “الجمهورية الأولى” بوضوح وإحساس جعلها تعيش بتأثيرها فى العقل والنفس!!
نشر الكاتب الفرنسى “روبير سوليه” كتابا عنوانه “السادات” تم نشره مترجما للعربية عام 2015.. قال فيه: “السادات الذى أيد فى شبابه الديكتاتورية.. بقى فى جوهره حاكما استبداديا مطلقا.. فقد كان بطل الحرب والسلام يحب النقاش فى الجلسات الخاصة, لكنه لا يتحمل أى معارضة فى العلن”.. ربما لأن تنقاضات شخصيته تتكشف إذا حاولت قراءة ما كتب.. فقد قدم – السادات – روايات متعددة لمسيرته السياسية.. فبعد أن كان يرفع عبد الناصر فى كتبه إلى حد التقديس.
راح يهمشه فى كتب أخرى أصدرها عندما أصبح رئيسا, وينسب لنفسه صفة مؤسس “تنظيم الضباط الأحرار”.. ثم يوضح الكاتب الفرنسى أن: “عهد أنور السادات ليس مرحلة عرضية فى التاريخ المصرى.. فالسنوات الإحدى عشر التى حكم خلالها, كانت أهم بكثير من السنوات الثلاثين التى قضاها خلفه – حسنى مبارك – فى الحكم.. لذلك يمكن القول أن فهم عهد السادات, هو أمر لا غنى عنه من أجل فهم مصر الحالية.. وربما حتى العالم العربى”!!
نموذج “عبد الناصر” يأخذ عقل وروح الذين يعرفون معنى الوطن!!
يمثل نموذج “السادات” قناعات أصحاب الشركات والسماسرة!!
يعتقد الذين حكموا مصر بداية من “أنور السادات” ولأكثر من نصف قرن بعده أن “الديمقراطية” كلمة.. وأن “الحرية” لعب أطفال.. كما أن “الدستور” نصوص يتم صياغتها ببلاغة دون حاجة إليها.. ويؤمن كل حكام “الجمهورية الثانية” أن الشعوب تحتاج إلى ما يملأ بطونها فقط.. وهؤلاء لا يقيمون وزنا لتاريخ أو فن أو ثقافة, لاعتقادهم أن هذه “حيوانات أليفة” يجوز الاستمتاع بتربيتها واللهو معها وبها!!
يذكر “روبير سوليه” فى كتابه: “فى شهر يناير عام 1981.. تلقى إريل شارون وزير الزراعة الإسرائيلى – آنذاك – رسالة على قدر من الغموض من نظيره المصرى محمود داوود.. أوضح فيها أنه يريد أن يرى نموذجا للرى الحديث فى مصر, بهدف غرس شتلة زراعية تثمر خلال عشرة أيام فى مكان مهم جدا.
فهم شارون الرسالة بعد استعانة بمستشاريه.. أرسل شاحنتين إسرائيليتين محملتين بكل ما يلزم.. تم نقل حمولتهما إلى العريش ومنها إلى شاحنات مصرية.. تم تنفيذ العملية وغرس الشتلة, مع الرى على الطريقة الإسرائيلية.
ثم كان شهر إبريل.. دعا السادات رؤساء تحرير الصحف, وأخذهم فى جولة على بستان مزروع برتقال.. قال لهم: هذه نتيجة زراعة تمت خلال عشرة أيام.. ذلك يكشف ما يمكن أن نستفيده من إسرائيل.. وفى شهر مايو إستقبل شارون فى ميت أبو الكوم, وقال لخبراء الزراعة المصريين أمامه.. لدينا أرض ولدينا ماء.. ولدينا إريل – كان يقصد شارون – وبسط أمامهم خريطة لمصر, ثم وجه كلامه إلى شارون قائلا: هذه صحراءنا التى نود إقامة زراعة حديثة فيها”!!
فهم “شارون” عقل من يحدثه.. فباع له الوهم!!
يذكر ذلك “كاتب فرنسى” يمكن أن تصدقه أو تكذبه.. يجوز أن تقبل كلامه أو ترفضه.. لكن أحدا لم يجرؤ على تكذيبه.. وليس معنى تجاهلها أن الواقعة المنشورة, لا يعرف عنها الشعب المصرى شيئا.. أو الاعتقاد أنها سر يستحيل كشفه.. لأنه تمت ترجمتها ونشرها فى مصر.. وكان الحل تكليف “حانوتية الثقافة” بدفنها.. كما عشرات أو مئات الكتب والمذكرات الكاشفة للحقيقة.. ليتأكد لنا أن منهج “الخداع الاستراتيجى” مع “معادلة الحكم” القائمة على “الفساد والإخوان” تمكنوا من الاستمرار..
عكس منهج “الجمهورية الأولى” التى كانت تقول وتفعل, وتقبل التحدى فى العلن.. دون أن يهمها غير قناعة ورضا شعب ثم أمة عربية.. وتجاوزت ذلك إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية!!
عبرت “الجمهورية الثانية” كل الحواجز التى اعترضتها بدعم غربى.. إنقلبت انتصارات “الجمهورية الأولى” إلى هزائم بفعل ماكينة إعلام غربية.. وكان ذلك مغريا لحكام هذه الجمهورية – الثانية – بعد أن وجدوا رئيسها الثانى – حسنى مبارك – يحكم لثلاثين عاما.. فخلق ذلك لديهم اعتقادا أن النيل يجرى والثقافة “مجرد كلام” لا معنى له..
لنجد أنفسنا أمام الكارثة.. فالنيل أصبح فى خطر كما قال “كامل زهيرى” وتسربت الثقافة من بين أصابعنا, بظهور “شوال الرز” الذى راح يعبث بتاريخ أمة ليفرض “حمو بيكا” و”شاكوش” بقدرات متخلف عقليا من “أراجوزات التنوير” يبدع حين يقدم فقرة للطبخ ثم يتلذذ بالتهام ما أنتجته.. لدرجة أن “برامج الطبخ” أصبحت فقرة ثابتة فى كافة القنوات المصرية.. فقد ظهر ما أطلق المصريون عليه “إعلام سامسونج” الذى يحتفى القائمون عليه بهدم قلاع تم بناؤها بتراكم جهد وإبداع صمد عبر عشرات السنين!!
أبرز ما يميز “الجمهورية الثانية” هو سخريتها من الشعب.. إتهامها له بالجهل والتخلف.. وتلعن رفضه للتطور الذى يقدر عليه “شارون” كما فعل فى الزراعة.. و”شوال الرز” فى الفن والرياضة.. وأصبح مطلوبا منا أن نحاكى “إعلام بنى تميم” فى “الدوحة” ونحلم بأن نصل إلى درجة نجاح “دبى” فى السياحة كفرع من أفرع “الاقتصاد الإماراتى” قبل أن تأخذنا صدمة دفاعه عما يسمى “سد النهضة” فى الأمم المتحدة, ويعرض تحمله ثمن صفقة تشترى بموجبها مصر “مياه النيل”!!