رائحة الخريف تملأ المكان.. الهواء الرطب يلتهم سقف الغرفة.
في غرفة النوم، رجلٌ وحيد انقض عليه أرقٌ غير محتمل. شوّه الضجرُ انتصاره وسلامه، ولم يعد لديه من يُطعمه في هذا المنزل، سوى نفسه والذباب.
الليالي متعبة وطويلة.
الخوف حشرةٌ لزجة، والأرق يسير بخطواتٍ عسكرية حول الفراش، ليلةً تلو الأخرى.
يسيل عرقٌ بارد من وراء ركبتيه، على ساقيه، ويصبُّ داخل قدمه.
يفكِّر فيها. ما زال اسمها يذوب على لسانه، كقُبلةٍ أولى. خلَّف الحزنُ طعمًا يشبه الرماد في فمه.
رآها في الحلم. تصعد درجات السلم الكئيب بساقين منهكتين، وهي تُمني النفس بحياةٍ أفضل. تخلع في الممر ذي الرائحة المعدنية حذاءها الأسود ذي الكعب العالي. بحركة من يدها، تعيد الرونق لخصلاتها المتموجة. قرطها يلمع في الإضاءة الخافتة. على مقعدٍ مهتز في غرفةٍ تشبه القبو، ترتجف، كأن جسمها يمتلئ بأعواد قشٍ حادة تصارع من أجل اختراق جلدها والخروج منه.
فمها مفتوحٌ في صمت، وهي تطعن يدها بشوكة طعام. دمية ماتريوشكا، تقيم داخلها نساءٌ من ألف جيل.
تسقط على حِجرها ورقة عليها ختمُ البلد الجديد.
هذه ليست أرض الميعاد، بل بلد العمل. أو لا تدري أن الطين المتعطش لا يُنبت إلا الأزهار الضعيفة؟!
استيقظ هلعًا. استنشق الهواء بعمق، فاندفع بحِدَّة داخل رئتيه. أصابه ألمٌ يشبه ارتطام مكعبات الثلج بالأسنان. سرى خيطٌ مؤلم في رأسه، تسبَّب له في صداع مفاجئ.
شعر بظمأ شديد يغلق حنجرته، فتذكَّر عصيرَ الرمان البارد الذي يحتفظ به في الثلاجة.
في المطبخ الضيق، وقع بصره على الورقة التي علَّقها على باب الثلاجة، بعد يوم من الفراق.
مدَّ يده العالقة بين الدهشة والهواء، وقرأها ببطء ونبرة صوتٍ ثقيلة مليئة بالشجن والاشتياق:
المرأة الوفية لا تهجر رجلها ولا حيواناتها الأليفة، تحت أي ظرف.