دخلت “الجمهورية الثانية” فى نفق أزمة, منذ إعلان “أنور السادات” رئيسا.. ثم أصبح مؤسسها لتستمر أكثر من نصف قرن.
فكل الذين حكموا بعباءتها, تمسكو بالمنهج واقتنعوا بمعادلة الحكم.. وكل رئيس منهم راهن على نفسه وأفكاره وقدراته – مع استثناء محمد مرسى الذى حكم باسم جماعته – وكلهم عبروا عن استيعابهم ظروف الحاضر, وقدموا وعودا بالذهاب إلى مستقبل ينتظره الشعب.
لكنهم جميعا تجاهلوا الشعب بمجرد الفوز بالشرعية.. كلهم اعتقدوا أن الشعب سلم صعود فقط.. لذلك استبعدوا فكرة النزول, مع استثناء مبارك, الذى تم إجباره على النزول.. واضطر إلى إعلان قبول ذلك.. أما “محمد مرسى” فقد استمر رافضا النزول, حتى بعد أن عزله الشعب!!
كل رؤساء “الجمهورية الثانية” إعتبروا مصر “حقل تجارب” لأوهامهم!!
أزمة “الجمهورية الثانية” أن رؤساءها لم يقرأوا التاريخ.. بل عاندوه!!
قيمة “الجمهورية الأولى” أن حاكمها كان الوحيد الذى احترم التاريخ.. أدرك قيمة الجغرافيا.. إستوعب أهمية علم الاجتماع.. ذلك جعله لا يغمض عينيه عن الشعب, وكان فى كل لحظة يضع فى اعتباره نبض الشعب.. لإيمانه بأن الشعب هو القلب النابض لهذه الأمة.. يفسر معنى كلامى أن الشعب تمسك به “مهزوما” وتظاهر ضده بعدها بشهور – 1968 – وارتضى منه إعلان “بيان 30 مارس” الذى شهد بصدقه وأمانته حين قدمه – كما عهده الناس – لذلك تفرد “عبد الناصر” بوداع يصعب أن يتكرر!!
يكشف “أنور السادات” تقديره لنفسه خلال حواره مع “موسى صبرى” الذى أعاد نشره فى كتابه.. راح يحكى واحدة من قصصه المسلية التى لا يملك أحدا دليلا على حدوثها غيره.. فيقول: “إقترحت على جمال عبد الناصر أن أتولى رئاسة الاتحاد الاشتراكى لتحويله إلى حزب سياسى.. كنت مخلصا فى هذا الاقتراح لسابق خبرتى فى الشارع السياسى.. لكنه تجاهل اقتراحى.. قال لى: لماذا لا تذهب إلى بورسعيد لتستريح مع أسرتك بعض الوقت.. فعلا سافرت نفس اليوم على أول طائرة إلى بورسعيد, ولم أفتح الموضوع معه أبدا.. ومرة ثانية.. بعد الهزيمة.. طلبت منه أن يطلق يدى فى الجهاز التنفيذى لمدة ستة أشهر فقط.. وكنت قد درست الوضع الداخلى, ورأيت أنه من الممكن إصدار قرارات شعبية تنفيذية هامة تصلح الأوضاع.. كنت قد اجتمعت بالوزراء فرادى وعلى هيئة مؤتمرات صغيرة.. تقبل الفكرة.. لكنه قال لى: نرجئ ذلك إلى ما بعد إزالة آثار العدوان.. ولا أذكر أننى اختلفت معه على الإطلاق”!!
بغض النظر عن أن الرواية غير صحيحة.. لكننى لا أستطيع أن أصدقها!!
عندما يطلب “أنور السادات” رئاسة “الاتحاد الاشتراكى” بعد فشله الذريع فى قيادة “الاتحاد القومى” وكان أمينه العام.. فلابد أن يكون رد “عبد الناصر” المهذب كما ذكره.. وهو يذكر الحكاية أملا فى أن يفهم من لا يعرف أن “عبد الناصر” كان يميل إلى إبعاده عن موقع سياسى مرموق.. متجاهلا أن من يعرف يعلم بالضرورة أنه كان وكيلا لمجلس الأمة ثم رئيسا للمجلس – السلطة التشريعية – لسنوات.. ولا يذكر التاريخ له موقفا يشير إلى خبرة فى الشارع السياسى!!..
ثم يذكر أنه طلب رئاسة الوزراء “يطلق يدى فى الجهاز التنفيذى” عابرا على أنه شغل موقع نائب رئيس الجمهورية.. أى أنه كان الرجل الثانى فى البلاد, دون أن يذكر له التاريخ حتى اختلافا فى الرأى مع نائبين آخرين إلى جانبه – على صبرى وحسين الشافعى – ولعلنا لا نغفل مرة وحيدة عبر خلالها عن رأى مختلف عن “عبد الناصر” حين تسرع بإعلانه رفض “مبادرة روجرز” وقت قبول “عبد الناصر” لها خلال زيارته الأخيرة إلى “موسكو”.. وكان ذلك سببا فى أن “عبد الناصر” قال له لحظة وصوله: “أظنك تحتاج إلى راحة فى ميت أبو الكوم” ليشيع بعدها بأنه أصيب بأزمة قلبية, أملا فى أن يغفر له الرئيس تسرعه!!
ترك “أنور السادات” كتبا ومقالات وروايات كرئيس.. كلها لو دققت قليلا لكشف التناقض فيها, أو للتدليل على عدم صدقها.. سأذهب إلى ما لا أريد أو أحب.. فلا يمكن أن أضع نفسى فى هذا المربع.. سواء تمجيدا لعبد الناصر أو تشويها للسادات.. لأن هدفى – صادقا وأمينا – مع عقلى والقارئ, هو التفكير بصوت عال حول رؤيتى للجمهورية الثالثة التى أراهن عليها.. لن يتحقق ذلك دون وضع خطوط تحت أهم ملامح منهج كل منهما.. خاصة وأن الأولى انتهت برحيل قائدها وزعيمها, والثانية إستمرت رغم اغتيال مؤسسها!
ما لا أحبه.. وما لا أريده.. ذهب إليه “موسى صبرى”
يقول “موسى صبرى” عن “أنور السادات” فى كتابه: “كان شخصا عاطفيا فى أعماقه الإنسانية.. كان لا يميل أبدا إلى الإيذاء.. كان دائما واقعيا.. يتعامل مع حقائق الأحداث.. بلا عاطفة – أخشى أن أضع علامات تعجب – كان عنيدا.. هناك جزئيات كثيرة, كان يمكن أن يحسمها لولا صفة العناد التى لازمتها صفة التحدى.. مثال ذلك مشكلات نادى القضاة.. مشكلات نقابة الصحفيين.. مشكلات نقابة المحامين”!! ولا أفهم كيف كان “السادات” عاطفيا.. ويتعامل مع حقائق الأحداث.. بلا عاطفة!! لكن الكاتب – موسى صبرى – أخذته براعة الصياغة, دون تدقيق فى المعنى.. وأراد أن ينتصر له فيما يجب إدانته عليه “صفة العناد” التى سار عليها “حسنى مبارك” وتفاخر بأنه معه “دكتوراه فى العناد”.. وعلى الدرب نفسه كانت – ومازالت – مسيرة الذين حكموا بعده!!..
ويجب أن نتوقف أمام ما ذكره “موسى صبرى” فى وصفه لأزمات “السادات” مع القضاة والصحفيين والمحامين.. بأنها مجرد مشكلات, دون أن يذكر مشكلات الأحزاب وكل الذين عارضوه.. ولا حتى مشكلاته – أزماته – مع الذين اختارهم لكى يشاركوه المسئولية.. بداية من “ممدوح سالم” مرورا بكل من “الفريق محمد صادق” و”اللواء سعد الدين الشاذلى” و”عزيز صدقى” و”عبد العزيز حجازى”.. وليس نهاية بكل من “سيد مرعى و”منصور حسن” دون أن أضيف مشكلاته – أزماته – مع العالم العربى وكل حكامه.. وحتى لا تأخذنى التفاصيل.. ولكى أتجنب ممارسة ألاعيب الذين انتحلوا صفة “خبير استراتيجى” أو نصبوا أنفسهم مفكرين.. إكتفى بتلك الإضاءة, لأن ما بعدها “مفزع” بكل معنى الكلمة!!
يقول “موسى صبرى” عن “السادات” أن عالميته فاقت عالمية “جمال عبد الناصر”!!
يشرح هذه الفكرة فى إطار رؤية أمريكية, ليقول: “عبد الناصر كان يهتم بالأخبار الشخصية.. كان مؤمنا بأن كل صاحب ثروة لص.. لذلك كان يشك فى أى شخص يسمع أنه كون ثروة.. وعلى نقيض ذلك كان أنور السادات.. كانت لا تهمه الأخبار الشخصية.. كان يريد النجاح المادى فى الحياة العامة.. ولم يكن يحمل فى نفسه أى حقد على أى إنسان كون ثروة, ما دام لم يستخدم أساليب غير مشروعة.. كان عبد الناصر يعتمد التخويف.. وكان السادات يعتمد على الترغيب فى العمل والنجاح”!!
كل الذين دافعوا عن “السادات” يمارسون هذا الكذب الذى يرونه لذيذا!!
الحقيقة أن “عبد الناصر” كان لا يكف عن القراءة.. أما “أنور السادات” فقد قال: “لا أحب القراءة لأنها قتلت عبد الناصر” والدراسات أثبتت أن “السادات” تفوق على “عبد الناصر” فى عدد الخطابات التى كان يلقيها سنويا.. بقيت كلمات وخطابات “عبد الناصر” تحتاج إلى دراسة ومراجعة.. ولم يبق من خطابات “السادات” غير أقوال مأثورة.. بينها “الحقد لا يبنى” و”كبير العائلة” و”أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة” و”دولة العلم والإيمان” إضافة إلى “هافرمه” و”الديمقراطية لها أنياب” وليس انتهاء بـ”أهو مرمى فى السجن زى الكلب” ودون إغفال قوله عن “الإخوان” فى آخر خطاب: “أنا غلطان إنى خرجتهم من السجون.. دول مكانهم السجون”!!.. ورغم أنه كان يعلم ذلك.. فقد اعادهم للمسرح السياسى, وتناسى أنه كان أحد القضاة الذين حاكموهم فى قضية محاولة اغتيال “عبد الناصر” وصدق على أحكام بالإعدام ضد قادتهم.. وتجاوز “موسى صبرى” عن قوله: “شيخ الأزهر والبابا.. مجانين”!!
وقع العقل المصرى تحت تأثير “ماكينات الكذب والتزوير” لسنوات طوال!!
سلم الذين وضعوا كتاب “النفاق الرخيص” الراية للذين أسميهم “أراجوزات التنوير”!!
يرجع ذلك إلى أن “السادات” إعتمد فى سنوات حكمه على “أعداء عبد الناصر” فى الإعلام.. وعلى دربه سار الذين حكموا بعده.. شرط أن يحتقروا – قليلا – الحاكم السابق.. حتى وصلنا إلى الذين يحتقرون التاريخ والثقافة, ولا يتورعون عن التحقير من شأن الشعب.. وكلهم ينتصرون لفساد ما قبل الثورة, وينعمون فى فساد الزمن الذى يعيشونه.. المهم أن يلعنوا “ثورة 23 يوليو” وزعيمها وقائدها, لكى ينالوا رضا الذى يجلس على كرسى “الجمهورية الثانية” حتى وصلنا إلى حالة رفض شعبى غير مسبوق للإعلام.. وصلت إلى ما يؤكد نهايتها!!
المسافة بين “محمد حسنين هيكل” و”موسى صبرى” هى المسافة نفسها بين “زمن الجمهورية الأولى” و”زمن الجمهورية الثانية” فى بدايتها.. إتسعت المسافة حتى وصلنا إلى “قزم الإعلام” الذى ينافس جمع من السفهاء فى تجويد ما يصلهم عبر “جهاز سامسونج” بسطحية تفرض حالة “اكتئاب عام” بسبب ضياع نضال بدأ من “18 و19 يناير عام 1977”.. ولم يتوقف عند “30 يونيو 2013” الذى تحول إلى جريمة ارتكبها الشعب مع ثورته يوم “25 يناير 2011” وهو استخلاص يؤكد دون أدنى شك أن “الجمهورية الثانية” أشهرت إفلاسها!!
أنكر “أنور السادات” ما حدث فى “18 و19 يناير 1977” وذهب إلى وصفه بأنه “إنتفاضة حرامية” وتجاوز “حسنى مبارك” عما حدث فى “25 و26 فبراير 1986”.. ليضطر إلى “النزول” عند “25 يناير 2011” واحتفل “محمد مرسى” حتى رحل ناكرا حقيقة ما حدث فى “30 يونيو 2013”..