منوعات

نصر القفاص يكتب : «قانون العيب»!!

كانت نهاية “أنور السادات” مفزعة بكل معنى الكلمة.. قتله الذين اصطفاهم لوضع أساس سنوات حكمه.. إختاروا اليوم الذى يرتبط فى الذاكرة الوطنية, بتحقيق أكبر وأهم انتصار عسكرى فى العصر الحديث.

أرادوا سقوطه وسط رجال القوات المسلحة والشرطة والدبلوماسيين.. على الهواء.. بدا كما لو كانت الجريمة ردا على إعلانه: “لا سياسة فى الدين.. ولا دين فى السياسة” وقت ذهابه إلى تعديل الدستور بجعل “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع”..

وكان هذا التعديل تغطية على المطلوب وقتها.. جعل الرئيس يحكم لأكثر من مدتين – مدد أخرى – وهو التعديل الذى استفاد منه “حسنى مبارك” ليتمكن من الاستمرار لنحو ثلاثين عاما!!

الغريب أن “السادات” اعلن رفع حالة الطوارىء, وقت أن جعل المجتمع فى “حالة توتر” واضحة.. وكان يعلم أنه مستهدف من أجهزة مخابرات إقليمية.. ويذكر “موسى صبرى” فى كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” أنه لديه ما يؤكد تعرضه لنحو 38 محاولة اغتيال منذ عام 1977, وذلك جعله يكتب: “النجاح الداخلى أهم بكثير من النجاح الخارجى”.. وتم نشر ذلك فى كتيب بعد رحيله بعنوان “وصيتى” وسجل فيه: ” يجب قول الحقيقة دائما.. ذلك أفضل”!! لكنه كان ينكر الحقيقة ويسخر منها فى خطاباته الأخيرة.. فعل ذلك فى خطابه قبل الأخير يوم 15 سبتمبر 1981, والذى استمر لنحو أربع ساعات.. كما فعل فى خطابه الأخير يوم 25 سبتمبر, والذى تحدث فيه عن ضابط هارب متآمر.. وكان يقصد “عبود الزمر” تحديدا, رغم وجود آخرين.. ولعل “أندريه جروميكو” إختصر رؤيته له بقوله: “كان يملك قدرة غير عادية على تشويه الحقائق”!!

أدركت عواصم الغرب – واسرائيل – أنه لم يعد يملك جديدا!!

إنقلبت عليه صحف الغرب, التى جعلته “رجل العام” سنة 1978, ووضعت صورته على غلاف مجلة “التايم” حتى ينهى مهمة التوقيع على “معاهدة السلام” ثم أخذوا طريقا آخر.. راحوا ينتقدون حياة البذخ التى يعيش فيها متنقلا بين 12 قصرا من القصور الرئاسية.. تحدث عنه “شيمون بيريز” فى مذكراته ليقول ساخرا: ” كان السادات يرى نفسه نبيا للسلام ومحاربا مظفرا.. أى أنه غاندى ونابليون فى الوقت نفسه.. وقال لى أكثر من مرة أنهما أكثر شخصيتين يحمل لهما تقديرا.. فهو فى جلبابه بقريته يقوم بدور غاندى.. وإذا ظهر متألقا بالزى العسكرى يشعر أنه نابليون مصر”!!

راهن “السادات” على نجاح “كارتر”.. فجاء “ريجان” ليصيبه إحباطا شديدا!!

قال عنه “كارتر” بعد رحيله: “كان السادات أعظم زعيم التقيته فى حياتى, إذ لم يسهم أحد مثله فى صنع السلام”.. والمعنى نفسه قاله “ريجان” تقريبا: “لقد خسرت أمريكا صديقا حميما.. خسر العالم رجل دولة كبير.. وخسرت البشرية نصيرا للسلام”.. وهنا يرصد “روبير سولييه” فى كتابه “السادات”: “أن جنازته غاب عنها الشعب, الذى انشغل فى الاحتفال بعيد الأضحى.. فقد كانت جنازة أم كلثوم مذهلة.. أما جنازة عبد الناصر فهى أسطورية.. وقد يكون سبب ذلك حرصه على أن يظهر متأمرك ليرضى غرور السيدة الأولى – جيهان السادات – التى لعبت دورا غريبا على المصريين”!!.. هنا يجب أن نتوقف أمام بضع سطور فى مذكرات “كارتر” يذكر فيها أن تعليق مفاوضات “واشنطن” قبل توقيع المعاهدة.. أصابت “السادات” بحالة غضب وقلق.. “إضطررت إلى الذهاب للشرق الأوسط, وخلال ساعة واحدة من المناقشات معه, وصلنا إلى حل كل المشاكل لنصل إلى توقيع معاهدة السلام يوم 26 مارس 1979.. بعد أسابيع قليلة من زيارتى للقاهرة وإسرائيل”.. وعلق السادات على ذلك بأنها أسعد لحظة فى حياته.. أما “ريجان” فقد كتب فى مذكراته أنه عندما التقى “السادات لأول مرة, “قال لى أنه ليلة ثورة 23 يوليو شاهد فى السينما فيلما كنت ضمن أبطاله.. وخلال حفل عشاء ذكرت الواقعة نقلا عن الرئيس المصرى للضيوف”!!

صنعت “ماكينات الكذب” فى الغرب “أسطورة السادات” حتى وقع المعاهدة!!

انقلبت الماكينات ذاتها عليه بعدها.. راحت تنعته بأنه “ديكتاتور ردئ” عقب صدور “قانون العيب” وإعلانه قرارات 5 سبتمبر.. عقد مؤتمرا صحفيا فى “ميت أبو الكوم” دعا إليه المراسلين الأجانب يوم 7 سبتمبر.. هاجم الصحافة الغربية أمامهم, واتهمها بنشر الأكاذيب.. كان يقرأ مقاطع مما نشرته تلك الصحف وبينها “تايمز” ويسألهم.. “كيف تكتبون هذا الكلام”؟! ووصلت الأمور إلى ذروة الدراما, حين سأله أحد المراسلين.. “هل توافقك واشنطن على اعتقال معارضيك؟!”.. إنفجر “السادات” غضبا ليقول للذى طرح السؤال: “سيكون عندى حق أن أصدر أمرا بإعدامك بالرصاص, لمجرد طرحك لهذا السؤال.. لكننا فى بلد ديمقراطى.. لذلك لن أفعل”!!
كان “قانون العيب” قد “بصم” عليه البرلمان!!

تحول هذا القانون إلى مادة للسخرية والتهكم.. فهو قانون لا مثيل له.. وتم إقراره يوم 15 مايو عام 1980.. كانت مواده تتجاوز العبث, فهو قانون يقضى بمعاقبة كل من يرتكب أفعالا لا يمكن وصفها بانها جرائم.. بينها معاقبة كل من يحرض على كراهية أو احتقار النظام السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى.. معاقبة كل من يحرض النشء والشباب على التحلل من القيم الدينية أو الولاء للوطن.. ومعاقبة كل من ينشر أخبارا كاذبة أو دعاية مغرضة تستثير الرأى العام.. وكل من ينشر أو يذيع عبارات بذيئة أو شتائم تصدم الرأى العام أو تمس كرامة الدولة.. ومعاقبة كل من ينشر أو يذيع من خارج البلاد بيانات مغرضة أو دعايات مثيرة أو تسئ لسمعة النظام السياسى.. وأعطى القانون للمدعى العام الاشتراكى سلطة تطبيق القانون!!

يثير الدهشة أن “المدعى العام الاشتراكى” بقى فى دولة تبرأت من كل شبهة تربطها بالاشتراكية.. وأن مواد القانون كلها “فضفاضة” لا تحمل تعريفا محددا أو معان واضحة.. ليصبح كل المجتمع المصرى متهما حتى يثبت العكس.. وذلك دفع جريدة “واشنطن بوست” إلى نشر تقرير تقول فيه: “السادات يثبت أنه داخله خدع وغموض وشخصية غير سوية.. فهو يريد أن يكون كل شىء وعكسه.. بطلا للحرب والسلام.. مسلم متشدد يتكلم عن الحداثة.. يحكم باسم العلم والإيمان معا.. يرى فى الكذب طوق نجاة”!!

الغريب أن كل الذين حكموا “الجمهورية الثانية” أخذوا المنهج نفسه!!
كلهم تعرضوا لنهايات مثيرة.. ثم يأتى الحاكم الجديد متشبثا بذيل “واشنطن”!!

كان هذا هو الإنجاز الحقيقى الذى أرسى قاعدته “أنور السادات” بالنسبة للغرب و”واشنطن” التى أصابها بعض القلق بعد ما حدث فى “30 يونيو 2013”, ثم تنفست الصعداء!! ربما لأن “حسنى مبارك” أخذ طريق “السادات” دون صخب.. تجنب الإثارة.. إعتمد أسلوب “الباب الدوار” بأن يعتقل بعضا من معارضيه أو يطاردهم.. لكنه يهادن البعض الآخر ويفرج عنهم.. لم يأخذه طموحه أو خياله, لأن يصبح زعيما.

كل ما أراده أن يستمر رئيسا, حتى وجد نفسه مفروضا عليه طرح “التوريث” من جديد.. أراد أن يفعل بحذر.. تمنى تحقيق ما أراده “الوريث” دون صدام مع الشعب أو معارضيه.. خاصة وأنه جفف منابع الثقافة والسياسة والإعلام.. إعتقد فى أن “رجال المال” يمكن أن يكونوا “رافعة” تحمل “الوريث” إلى كرسى الحكم.. لكنه لم يشغل نفسه بقراءة تاريخ بلاده.. ولو حدث لأدرك أن هؤلاء الذين يطلقون عليهم “مستثمرين” لا يهمهم غير ثرواتهم.. وأنهم يضاعفون مكاسبهم مع كل حاكم جديد, طالما اطمأنوا إلى التزامه بمنهج “الجمهورية الثانية” إضافة إلى حرصهم الشديد على عدم عودة منهج “الجمهورية الأولى” أو ظهور نظام جديد يعتمد على الشعب مع صرف النظر عن رضى الغرب و”واشنطن” وظهور “رجال الخليج” على السطح لكى يعيثوا فى مصر فسادا!!

رسم الدكتور “جلال أمين” الصورة بدقة حين ذكر: “إنقسمت مصر إلى أمتين.. أمة عائداتها ونفقاتها بالدولار.. وأخرى عليها أن تجرى حساباتها بالجنيه المصرى.. أمة تشترى من الخارج الطعام والملابس وحاجاتها المختلفة.. وأخرى لا خيار أمامها سوى شراء المنتجات المحلية”.. وذلك ظهر بوضوح خلال فترة حكم “حسنى مبارك” وتأكد بعد رحيله.. لأن مصر التى ضبطت نبضها على دقات قلب البنك الدولى.. رهنت حاضرها ومستقبلها بما يشير عليها به هذا البنك ورجاله فى الداخل.. خاصة وأنه زرع أحد موظفيه ليكون رئيسا للجنة “الخطة والموازنة” فى “مجلس النواب” حتى ولو جاء من بوابة “حزب الوفد” عندما أصبحت “الجمهورية الثانية” ذات لون واحد.. لا فرق فيها بين هذا أو ذاك.. فقد اتفق الجميع على تقسيم “الكعكة” ليبدو الأمر, كما لو كانت مصر قد عادت إلى زمن ما بعد “ثورة 1919” التى تم إجهاضها ليدور الوطن حول نفسه عشرات السنوات!!
إنتهى “أنور السادات” بمجرد رحيله!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى