عزبتنا المرفهة كان على جانبها الشرقي حي امبروزو الصغير ثم حي الحضرة، حيث سينما الحضرة وهي على مرمى قريب أقرب من مدى الصاروخين القاهر والظافر.
وفي سينما الحضرة شاهدت وأنا ما بين السادسة والعاشرة من العمر أفلامًا مبهرة وغير مبهرة، أجنبية ومصرية.
وكانت أجمل الأفلام هي أفلام الأكشن المليئة بالضرب وبالحركات وإطلاق نيران المسدسات والبنادق والمدافع، وبها إشعال حرائق وهدم بيوت وسيحان الدماء، فأعود لعزبة توماس؛ لأحكي لرفقائي ما شاهدته بأسلوبي الخاص، فأنا لم أكن أقرأ ترجمة الفيلم، وإن حاولت لن أستطيع، ولا أريد أصلاً؛ فمخيلتي تتولى تدبير فهم الفيلم بطريقتها الخاصة، وهي التي تعطيني الثقة في حكي هذا الفيلم أو ذاك.
أما أصحابي فهم ينتظرون مني أن أحكي لهم، فيبقوا منبهرين فاغري الأفواه لما يستقبلونه بمخيلتهم الصغيرة الخام.. وبعد سنوات عديدة كانوا يذكرونني كيف كنت أحب السينما وأحكي لهم الأفلام، ويكون السؤال الذي أتوقعه:
-كيف كنت تفهم الأفلام وتحكيها لنا، وأنت لا تفهم الإنجليزية ولا تستطيع قراءة الترجمة؟!
وتكون إجابتي:
-وكيف كنتم تستمتعون بما أحكيه لكم وتصدقونه؟
إنها مخيلة الأطفال الرائعة.
بعد سنوات لم تعد سينما الحضرة هي السينما الوحيدة المحتكرة لهذا الفن العجيب، ظهرت سينما الحلمية وهي شعبية سكلاوية أيضًا.. والمقاعد الأمامية لم تكن مقاعد بل دكك طويلة، كل دكّة تسع قول خمسة عشر من الأطفال، أو نص دستة ستات مع طفلين تلاتة. وأتذكر كنا نشاهد فيلمًا لعبد الحليم وشادية، وعبد الحليم سأل شادية: أنت منين؟ فقالت بدلالها المعروف:
-مِن الحلمية.
وهنا تهيج صالة السينما بصيحات الأطفال وهم الرواد الأساسيون للسينما: هيه هيه هيه. أصل شادية قالت الحلمية والسينما اسمها الحلمية! شاهدت الفيلم مرتين، وفي المرة الثانية كنت أنتظر هذا الحوار لأصيح مرة ثانية مع الأطفال: هيه هيه، وقتها لم يكن زبائن البلكون يصيحون مطلقًا، أصلا لا يوجد بلكون في سينما الحلمية، أو هكذا أتذكر.
نذهب مرتدين البيجامات، أو الجلاليب وبعضنا حفاة.. أنا كنت أذهب بالجلابية أو البيجامة وفي قدمي قبقاب؛ ضروري لأنني سأذهب خارج العزبة ولأن الدخول للسينما يقتضي الشياكة في الملبس.
أتذكر أول مرة أدخل الأوبرا في الإسكندرية (حقيقة ليست أوبرا، هي مسرح محمد علي، الذي سرقوا اسمه وأطلقوا عليه اسم مسرح سيد درويش؛ لأن محمد علي من الرجعية! ثم حذفوا سيد درويش وقالوا أوبرا!) عزمني صديقان لي ونبهوني يجب أن ارتدي بدلة كاملة.
أنا عامل حسابي وقتها وعندي ما يحتسب أنه بدلة، لكن كرافت! منين يا مرزوق؟ أكره الكرافتات ولا أرتديها، خاصة أنني لا أملك ولا واحدة! (وفي حفل زفافي المجيد، أخفت عروستي كرافتة في شنطتها، وأجبرتني مع صديقين لي أن ارتديها في صورة الزفاف). أحدهما أتى معه بكرافتتين وساعدني في ربط أحدهما بصعوبة لأن ياقة القميص لا تنغلق.. تذكرت أيام الطفولة حين كنت غاية في الأناقة وآخر شياكة وأذهب للسينما الحضرة أو الحلمية، بالجلابية الريدنجوت أو بالبيجامة السموكينج والقبقاب.
سؤال للأحباب: لأن ما فوقه وما سيأتي من بعده،سبق أن نشرته من قبل سابق، ولخشيتي من مضايقتكم بتقلبون شفاهكم امتعاضا من غلاستي المتكررة.. أسأل.. أكمل ولا أنسحب؟ تماما زي “أفتح الشباك ولا أقفله”؟