يطلق سكان “دار السلام” في جنوب القاهرة على الحي الذي يسكنونه تندرا اسم “الصين الشعبية” دلالة على الزحام الشديد الذي يعيشون فيه.
ودار السلام منطقة عجيبة مدهشة، يعيش فيها عدد ضخم من السكان ليس لهم سوى شارع مروري واحد تتلاصق على جانبية آلاف العمارات المتكدسة بالسكان، يصلها هذا الشارع بمنطقة مصر القديمة وجزيرة الروضة شمالا وبحي المعادي جنوبا.
ولم تخلق دار السلام لتكون سجنا خرسانيا حبيسا بين الجبل شرقا وطريق كورنيش النيل غربا، بل كانت واحدة من أجمل مناطق القاهرة قبل قرن من الزمن، وكانت لجمالها تقارن في أطلس وصف مصر للحملة الفرنسية بجزيرة الروضة التي عدت واحدة من رياض الجنة.
وأصل اسم دار السلام الحقيقي هو “دير الطين” غير أن السكان المهاجرين من فقر الصعيد الأوسط – ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين- أعادوا تسمية المكان في الدوائر الحكومية، وتم توثيق ذلك على الخرائط الحديثة ليصبح “دار السلام”، هروبا من تهمة “الطين” !
وقد وقعت حالات مشابهة في الصعيد، أشهرها شعور أهل بلدة “البلاص” في محافظة قنا بالحرج من الاسم فغيروه إلى “المحروسة” رغم أن البلاص كانت أشهر بلدة لصناعة القوارير الفخارية في عموم الصعيد بحكم موقعها الفريد بين الهضبة الغربية وما بها من طفل صحراوي ونهر النيل وما يجلبه من طمي أسود، يتم خلط الاثنين معا لصناعة أشهر وأجمل الأواعي الفخارية.
لم أضرب مثال “البلاص” التي تحولت إلى “المحروسة” لمجرد الاستطراد، بل لأن هناك علاقة قوية يكشفها لنا علماء الحملة الفرنسية في موسوعة وصف مصر، وهي أن دير الطين كانت مصدرا لصناعة فواخير وقوارير عموم القاهرة، وذلك بفضل ما تضمه من أفضل أنواع الطين المناسبة لذلك.
حسنا، لو كان اسم “الطين” قد جاء هنا إشارة إلى الطمي النيلي الوافد مع الفيضان نحو الجهة الشرقية أسفل جبل المقطم، فمن أين جاء اسم “دير” ؟!
يذهب كثير منا إلى أن الاسم نسبة إلى دير مسيحي في هذه المنطقة، بل وترجح ذلك بعض المصادر المسيحية. ولكن الخرائط والتوثيق الذي أعطته الحملة الفرنسية قبل 220 سنة لا يشير إلى ذلك مطلقا. صحيح أن هناك عدة أديرة مسيحية تحيط بالمنطقة، إلا أن رسامي خرائط الحملة الفرنسية كانوا واضحين تماما في التفرقة بين النوعين من الأسماء: يكتبون على الدير ترجمته الفرنسية، بينما أبقوا على اسم “دير الطين” كاسم علم لأرض فيضية واسعة بجوارها بلدة صغيرة من عدة بيوت إلى الجنوب من أثر النبي.
والأرجح في كلمة “دير” أنها تخص الطبوغرافيا وليس الدين والمسيحية، فالكلمة منتشرة في الصحاري المصرية لتشير إلى رقعة من الأرض – بيضاوية أو دائرية الشكل غالبا – أقل منسوبا ومنخفضة بعدة أمتار عما يحيط بها، أي باختصار فإن دير هنا تعني “منخفض حوضي صغير”.
على هذا النحو من التفسير، كان الفيضان حين يصل إل هذه المنطقة المنخفضة يلقي بالمياه فيها، وحين تنصرف المياه شمالا أو تتبخر البرك والمستنقعات يزداد تراكم الطين في المنخفض الذي نسميه “دير” ومن ثم ظهرت منطقة “دير الطين”.
ووجود المياه والمستنقعات والبرك وثيق الصلة باسم آخر يرتبط بدار السلام وهو “الملأة” وكان سكان دار السلام يستعملون هذا المسمى دلالة على أنه يعبر عن أن الحي “ممتلئ بالبشر” .
لكن الحقيقة عكس ذلك، فلا علاقة لاسم الملأة (الملقة) بامتلاء المنطقة بالبشر. ففي واحد من بحوثه توصل عالم الجغرافيا التاريخية الراحل بجامعة القاهرة أ.د عبد العال الشامي إلى أن الكلمة تشير إلى البرك والبحيرات الصغيرة المتبقية عن فيضان النيل.
ومنذ منتصف القرن الماضي، أخذت “دار السلام” تطرد أي صلة لها بالماضي البيئي، وألصقت نفسها بالازدحام والتكدس السكني والانفجار السكاني، واختفى الطين ولم يعد له أي وجود، وبالتالي لم تعد بها زراعة ولا محاصيل ولا قمح ولا شعير ولا خضروات أو بساتين.
والذين يعرفون مثلي منطقة مصر عتيقة بحكم مولدهم ومعيشتهم في هذا الإقليم – الذي يضم أيضا أثر النبي – يتذكرون مرحلة انتقالية عاشتها المنطقة قبل 45 سنة حين تفتحت أعيننا عليها. وذلك حين كانت أشجار الكافور والجازورين تصطف على جانبي قناة مائية عظيمة تخترق الحقول الزراعية تسمى “ترعة الخشاب” وتجعل من المنطقة ريفا ساحرا عامرا بكل روائح عطرة من أشجار ومحاصيل.
والمهاجرون المعدمون الذي جاءوا من الصعيد الأوسط – هربا من بقايا الإقطاع والعوز – ليسوا مسؤولين عن تحويل دير الطين إلى دار السلام، لأنهم حين وفدوا هنا مع عهد عبد الناصر سكنوا أطراف المنطقة الجبلية ولم تمتد أيديهم إلى الأرض الزراعية، بل تم تحويل هذه المنطقة لسكان أكثر قدرة مالية على شراء الشقق والعمارات استغلالا للموقع القريب جدا من المعادي وكورنيش النيل.
“دار السلام” اليوم قطعة متكدسة من البشر تعيش حرفيا الانفجار السكاني كما يتم تدريسه في الكتب المرجعية بكل مشاكله وأمراضه، واختفت منها الأرض الزراعية، وبالطبع ردمت ترعة الخشاب قبل 40 سنة وركبها الآن طريق وحيد غابر مكفهر غارق في عوادم السيارات يصلها بالمعادي جنوبا ومصر عتيقة شمالا.
يحدد علماء الجغرافيا والبيئة مرحلة من التغيرات البيئية يسمونها “غير قابلة للاسترداد”، أي أن محو السكان وهدم العمارات واستعادة “دير الطين” لتصبح أرضا خصبة منتجة للغذاء صار أمرا مستحيلا اليوم.
الفائدة الوحيدة من درس “دير الطين” التي صارت دار السلام (كدت أقول دار الزحام)، هو أن نسرع بإنقاذ المناطق التي تلفظ فيها الأراضي الزراعية أنفاسها الأخيرة فنحميها من التجريف والتبوير حتى لا نسير نحو المجاعة: بكل ثقة!
للمزيد: موقع التعمير للتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيس بوك التعمير