منوعات

د. عاطف معتمد يكتب: الجزيرة التي كانت محرمة !

أخذت الصورة المرفقة من البر الغربي لأسوان من التل الشهير المعروف باسم “أبو الهوا”. لا تصح زيارتك لأسوان إلا بصعود هذا التل ورؤية أسوان من هذه الزاوية النادرة التي تكشف لك معالم النيل الأسطوري.

حين عدت لحاسوبي ليلا وضعت أسماء الأماكن التي تجدها في الصورة أخذا في الاعتبار أننا نقف هنا نولي وجهنا شطر الجنوب: إلى بلاد النوبة ومن خلفها وطننا الثاني في السودان.

في الصورة المرفقة جزيرتان شهيرتان، الكبيرة منها تسمى “إليفنتين” أو “جزيرة أسوان” والتي يسكنها البسطاء في الطرف الجنوبي ويحتلها فندق معولم في الطرف الشمالي.

أما الجزيرة الأصغر وهي قصتنا في المقال الحالي فتسمى جزيرة النباتات وسأسميها هنا تجاوزا “الجزيرة المحرمة”.

هذه الجزيرة مؤلفة من الجرانيت مثلها مثل بقية جزر نيل أسوان التي تنتشر هنا بالعشرات فتفرق النهر وتشعب مجراه حتى أنه يكاد يكون مثالا مدرسيا للنهر المضفر الذي يشبهه الجغرافيون بفتاة ذات شعر حريري غزير وزعته على ضفائر أو جدائل بدلا من تركه منسابا منسدلا في نهر واحد.

في هذا النهر المضفر تتلقى الجزر الجرانيتية كلا من طمي النيل ورمل الصحراء. لابد أنك رأيت في الصورة هنا رمال الصحراء الذهبية اللون التي جاءت من عمق بحور الرمال قرب ليبيا تحاول أن تردم النيل.
هذه الرمال لم تيأس بعد ولولا تدفق النيل من الجنوب إلى الشمال بشكل منتظم لتمكنت من سد المجرى وغلق النيل.

هذه الحقيقة الجغرافية الطبيعية هي التي صنعت واحدة من أساطير مصر القديمة التي يقول بعضها إن الأخ الشرير “سِت” حين حاول انتزاع الحكم من أخيه الطيب “أوزير” أراد أن يفسد له ملك مصر فاستحال إلى قوة الصحراء العاتية وصار إلها معبودا للرياح واتخذ من بلايين الرمال جنودا وأمرهم أن يردموا النيل ويوقفوا تدفق النهر كي تتعطل قوة أوزير الأسطورية التي يستمدها من تقديمه الأرض الخضراء لشعب مصر .

وفقا للأسطورة ينجح سِت (الجد الأول لكل قابيل) في قتل أخيه الطيب “أوزير” (الجد الأول لكل هابيل) لكن ابنه “حور” يستطيع إنقاذ الموقف ويثأر لأبيه ويتمكن من إيقاف رمال الصحراء الذهبية اللون من غزو النهر هنا في جنوب أرضنا في أسوان، وإن كانت ما تزال تقف بالمرصاد كما نرى.

بين رمال الصحراء وجزيرة أسوان تقع الجزيرة المحرمة التي عرفنا اسمها أول مرة على خريطة من زمن الاحتلال الإنجليزي. تاريخ هذه الخريطة يعود إلى 120سنة مضت وعليها نجد الجزيرة تحمل اسم “جزيرة السردار”.

السردار كلمة فارسية على ما يبدو تعني الحاكم العام أو رئيس الأركان ويبدو أنها الصيغة المحرفة في مسمى السلطان العثماني “الصدر” الأعظم.
لم يكتف رسامو الخرائط في العهد الإنجليزي بأن يكتبوا على هذه الجزيرة اسم “جزيرة السردار” بل أضافوا إليها اسما بعينه للسرداد وهو “كيتشينر” الذي كان يقود في نهاية القرن التاسع عشر الحملة الإنجليزية للقضاء على الثورة المهدية التي كافحت لوقف الاحتلال البريطاني على أرضها حين لعبت بريطانيا بذكاء ماكر على توريط الجيش المصري تحت عنوان الدفاع عن “السودان المصري” كي يبقى مصريا.

اتخذ كيتشينر من الجزيرة وموقعها العبقري مقرا لقيادة الحرب في السودان واستغل وقت الراحة والتأمل في ممارسة هوايته بجمع النادر والفريد من الأشجار والنباتات ليزرعها في الجزيرة وأتى بأشجار ونباتات من عمق آسيا ومجاهل إفريقيا.

في نهاية العهد الملكي في أربعينيات القرن العشرين ستغير المساحة المصرية التي أسسها الإنجليز من اسم الجزيرة ليصبح “جزيرة المـَـلـِـك” نسبة على ما يبدو إلى الملك فؤاد الأول الذي أصبح الاسم الأشهر في السياسة المصرية بعد تراجع دول الإنجليز الشكلي.

بعد قيام الجمهورية كان من المنطقي استثمار الثروة النباتية التي جمعها كيتشينر والتي جعلت من الجزيرة متحفا نادرا للنباتات في أن تصبح جزيرة للشعب متاحة للزيارة والتجول والراحة لكل من يأتي أسوان.

في كل مرة أزور فيها جزيرة النباتات ينتابني شعور فريد يعود بي إلى سن التلمذة في مدرسة إعدادية حين كانت مدرستنا في الأصل قصرا لأحد الأمراء. كنت أذهب مبكرا قبل بدء الحصص أو أتأخر قليلا بعد انصراف التلاميذ وأدخل في الفصول التي هي في الأصل غرف أميرية وأقف طويلا في الشرفات أنظر إلى الحديقة الفناء التي كان يطل منها أصحاب ذلك القصر، متخيلا كيف كانت حياتهم وأين هم الآن؟

استمرت هذه العادة معي بمرور الزمن حتى أنني في كل بلد أزورها في الخارج وأدخل قصرا تحول من الملكية إلى الجمهورية فصار متحفا أو مكتبة عامة أقف طويلا على السلالم الرخامية أتطلع في الأفق المفتوح مستدعيا تاريخ الغابرين.

خلال تجوالك في جزيرة النباتات لا توجد إشارة إلى كل السطور التي ذكرتها في هذا المقال، أغلب الناس هنا يأتون للتصوير أو المرح أو “فسحة في جنينة” وقليل يعرف تاريخ المكان.

ليس من العيب أن نقول للناس إن هذه الجزيرة كانت مقر محتل إنجليزي ثم صارت جزيرة خاصة بالملك قبل أن تصبح جزيرة للشعب.

الأمم القوية لا تخشى ماضيها بل يمكنها أن تحول مواطن ضعفها إلى عناصر قوة، وحين يحدث ذلك سينشط خيال الزوار وتنتعش عقولهم وتذهب بهم الصور والأخيلة إلى زمن مضى وشعوب تغيرت.

حين يعرف الزوار كل ذلك سيقدرون المكان الذي يمشون فيه فلا يعتبرونه مجرد “فسحة” بل سيعرفون أنه موقع فريد لأساطير قديمة وتاريخ عميق فيتلمسون كل مكان باعتباره موقعا مقدسا نابضا بالحياة..ماضيها وحاضرها.

 

الجزيرة المحرمة

للمزيد: موقع التعمير للتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيس بوك التعمير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى