منوعات

د.محمد فتحى يكتب: 10 مشاهد فى حياة أبو الغيط!

كنت أقاوم الكتابة عن محمد أبو الغيط .. رأيت الجميع يرثونه رثاء مبكرًا رغم دعواتهم بحدوث المعجزة، وكان لا يزال عندي بقايا أمل رغم أن عقلي يعرف أنها الغيبوبة الأخيرة .

كان السرطان شرسًا لكن محمد كان باسلًا كما وصفته زوجته . قبل ثلاثة أسابيع كان محمد أفضل بكثير، بل كان سيأتي لحفل تكريمه من منتدى مصر للإعلام، وتم تجهيز العدة له على أكمل وجه بما في ذلك طائرة طبية كما سمعت !!

كانت محبة تليق به ولا تسع مشاعرنا الجارفة تجاه هذا النبيل . يا الله . أنا أكره السرطان . في لحظات يأسي أعرف أنه قادم وأننا نجونا بفضل الله أو أن كل من ( لم يصبه الدور ) .

لا أفهم كيف يتحدثون عن تقدم علمي وهم لم يجدوا علاجًا يمنع أو يقاوم أو يعلي من شأن الأمل في نسب الشفاء، ولا لماذا صار المرض الخبيث ينتقي الأخيار والموهوبين والنبلاء . كنت أخفي مشاعري دائمًا وأنا أتحدث مع محمد لأطمئن عليه بين حين وآخر . أحدثه عن الأمل، وعن المعجزات، وعن اليقين الذي أحب أن يتعامل به في لطف الله به .. ويحدثني بواقعية وصلت لأن يخبرني أنه على أمل أن يمر اليوم بيومه، وأنه لا يخطط لأبعد من ذلك .. أشاركه صورًا قديمة، ويشاركني ذكريات عزيزة .. وأعلم أن كلامي لا يخفف عليه، بينما هو يتذكر حازم دياب في ألمه ويقول لي أن الصالحين حتما سيموتون، وأنه مؤمن بذلك، وأنه يظن أنه لن يشفى أبدًا وسيظل كذلك حتى الموت .

ورغم ذلك .. رغم كل ذلك .. كان محمد قادرًا على أن يكتب ليهدينا نصوصًا بديعة ستعيش وتعيش وتعيش .. كان محمد قادرًا على أن يهدي من حوله المحبة رغم معاناته، والأمل رغم الألم .

(2)

لم يكن محمد أبو الغيط صغيرًا أبدًا رغم أنني عرفته مبكرًا .. ربما كان لا يزال يكمل دراسته الثانوية آنذاك .. لكنه كان كبيرًا دائمًا .. هذا الشاب الهادئ ( الراسي ) الموهوب في الكتابة، والذي يكتب بمداد قلبه وعقله المتقد .. كان واحدًا ممن ندهتهم نداهة القراءة، وهو أحد مريدي آباؤنا الأوائل نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق .. عرفته مشتركًا في شبكة روايات التفاعلية، وتابعته مدونًا لا يشق له غبار، يحلق بعيدًا عن السرب، ويختار ( المعلومات ) ويجتهد في ( البحث ) ليخرج بتدوينات طويلة لعل أكثرها صدى ما حققه بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير حين كتب : ” الفقراء أولًا يا ولاد الكلب ” .. لافتًا النظر إلى من يعتبرهم البعض (سرسجية)، والذين استشهدوا في أحداث يناير .. ويومًا بعد يوم كان محمد يرتقي .. يرتقي بكل ما في الكلمة من معان . كان منظمًا، مرتبًا، دقيقًا، موهوبًا، موثقًا، بديعًا في كتابته، ومحبًا بصدق .. إذا قال لك محمد أبو الغيط أنه يحبك فهو كذلك بالفعل، وقد قالها لي أكثر من مرة وأنا الذي رأيته واعتبرته أخًا صغيرًا يكبر أمام عيني بكل ما في الأخ الصغير من اندفاع وتمرد، وبكل فخر الأخ الكبير بما يحققه أخيه من نجاح، وللآن : هناك عدة مشاهد لا أنساها لمحمد

(3)

المشهد الأول : الجبلاية .. المنطقة المجاورة لسراي 3 و 4 في معرض الكتاب القديم .. شباب زي الورد يجتمعون لمقابلة بعضهم البعض في اجتماع سنوي مهيب ينطلقون فيه لحضور حفل توقيع أحمد خالد توفيق أو مقابلة كتابهم المفضلين .. كان محمد يحضر خصيصًا من أسيوط، ويحلم باليوم الذي سيوقع فيه كتابه في المعرض .. وعدني محمد قبل عدة أسابيع بأن نلتقي في المعرض القادم بإذن الله، لكن لقاء الله أفضل حيث الضوء الذي ذهب محمد إليه .. وكل أملي أن يجتمع محبوه في جناح الشروق في المعرض القادم لإحياء حفل توقيع من نوع آخر ندعو فيه لمحمد ونخبره أننا نحبه، وسنظل، وأثق أن المهندس إبراهيم المعلم Ibrahim El Moallem والعزيزة الأستاذة أميرة أبو المجد وباقي الأصدقاء في الشروق والذين يعرفون أبو الغيط جيدًا مثل نانسي حبيب Nancy Habib أو صديقه وصديقنا عمرو عز الدين Amr Ezz Eldeen سيجهزون الحفل ليكون على أعلى مستوى ..

(4)
المشهد الثاني : محمد أبو الغيط واحد من أهم كتاب الصحافة المصرية .. رغم مروره القصير فهو صاحب مدرسة حقيقية كنت أتمنى أن يكون لخريجيها صدى أعلى .. محمد هو المعلومة المدققة التي يستند عليها في بناء كبير يبحث فيه بمنهجية لا تتوفر عند أقرانه بالمرة . محمد لا يبالي بمن يصنفه لأنه سيكتب في كل الأحوال، وهو قادم من فضاء التدوين إلى ( تكتيفة ) الصحافة .. نعم .. الصحافة في بلدنا ( تكتيفة ) حيث تصبح مطالبًا دائمًا بالتبرير، وبالدفاع عن نفسك، وبتأكيد أنك تحب بلدك مع كل سطر ( حقيقي ) تكتب فيه ما لا يجرؤ غيرك على كتابته، وما قضى على صحافتنا حتى لم يعد فيها من تشتري الصحيفة لتقرأه أو تحرص على قراءة مقالاته لأنه ( كاتب كبير ) .. انتهى زمن الكاتب الكبير .. ومحمد كان كاتبًا كبيرًا وله عدة مقالات يمكن للأكاديميين تدريسها بمنتهى الأريحية كنموذج للمقال الصحفي التحليلي القائم على معلومات وليس على هوى كاتبه أو إملاءات يظن بها أنه يخدم الوطن . هذا هو محمد . ربما اخطأ ذات مرة لأنه بشر، ولازلت أذكر حديثي معه بشأن بهاء طاهر رحمه الله حين رفض التعقيب على حكم حبس أحمد ناجي، ولم أكن فظًا غليظ القلب لكنني قسوت عليه قسوة الأخ الكبير، وتقبلها محمد وناقشني وأظنه اقتنع في النهاية واعدًا إياي أن يفكر ألف مرة بعد ذلك في المواقف المشابهة . وهذا هو محمد . لا يكابر .. لا يرفض نصحًا .. لا يفجر أبدًا في خصومته النبيلة .

(5)
المشهد الثالث : تنتهي ندوة أدرتها للمعهد الدانماركي وقت أن أدارته الصديقة نهى النحاس .. كانت الندوات والفعاليات التي تصنعها نهى ( رئة ) يتنفس منها كثيرون ممن لم يذهبوا لمرحلة الشطط أو الفجر في الخصومة . لا أذكر موضوع الندوة بقدر ما أذكر ضيوفها . أبو الغيط و أحمد الدريني ربما وأحمد سمير ولربما كان تامر أبو عرب أو عمرو عزت .. حقيقة لا أذكر، ولا أتذكر سوى محبة جارفة، ورحلة إلى ( الرفاعي) .. يومها عرفت أن محمد لم يذق من قبل ما نسميه (السجق)، ويومها أصررنا أن (يجربه) .. وقد فعل .. صحيح أنه لم يحبه كما قال لي قبل عدة أسابيع، لكنه كان سعيدًا بالتجربة .. للدرجة التي جعلته يعدني في أيامه الأخيرة أن نكرر رحلتنا إلى الرفاعي لو أمد الله في عمره وجاء .. كان يتحدث عن جمال ( العيش الأسمر بتاع التموين ) وإنه الوحيد الذي تتفاعل معه معدته، وعن حلمه بأن يكون هناك متسع ليأكل مع أصدقائه في الأماكن التي يحبها .. وتواعدنا على خروجة الرفاعي والبرنس وسوبيا الرحماني .. لكن ما أعرفه يقينًا أن طعام الجنة أفضل يا محمد، ولا نزكي على الله أحدًا، فاللهم جنانك لعبدك محمد أبو الغيط

(6)

المشهد الرابع : شلة الثورجية يهاجمون لجنة العفو التي كنت أحد أعضائها .. نعم هناك ( شلة ) إذا لم تنفذ ما أرادوا شتموك وسبوك وخونوك، وهم محتكري الثورة والوطنية والحقيقة المطلقة وقد شهدت وشاهدت بنفسي أسلوب أكثرهم ( الوضيع) حين لا يكون أحد المفرج عنهم ضمن ( الشلة ) للدرجة التي دفعتني لسؤال شخصيات منهم : هو انت همك المظلوم يطلع والا صاحبك وخلاص ؟؟ .. وكان الرد : صاحبي !! .. وسط كل الاتهامات لنا كان محمد يبعث لي مطمئنًا، ومشجعًا، ومصرحًا بأن ما نفعله عظيم، وأن خروج شخص واحد فقط مظلوم وإنقاذه هو النجاح الأكبر مهما كانت ( الشتيمة ) .. والد زوجة محمد أحد المحبوسين بالمناسبة .. وقد قدم العديد من الالتماسات في كل حدب وصوب .. وكان حلم محمد الأخير أن يعفى عن الرجل .. لم تتحقق أمنية محمد في حياته ، أفلا نحققها له الآن ؟؟ .. أعرف أن لجنة العفو الرئاسي تلقت طلبات تخص الحالة وقدمتها ، لكن الأمر في يد الرئيس والأجهزة المطلعة على الأمر بأكمله .. وأتمنى أن نحقق أمنية محمد وقد ذهب إلى ربه .

(7)
المشهد الخامس : 2015 .. جرت مياه في النهر .. سافر محمد وترك مصر وعمل في قناة العربي . تواصل معي من أجل مداخلة فاعتذرت له وأخبرته بسبب رفضي الذي تفهمه تمامًا، وشكرني على صراحتي حين أخبرته أنني أعتبرها قناة ( إخوان ) وأنها إحدى المنصات التي تهاجم بلدي، كما أن بعض زملائي القدامى ممن يعملون بها يعتبرونني ( مخبرًا ) و ( صنيعة الأجهزة) .. فلماذا يلجأون لي .. أخبرني أنهم يعتبرونني عاقلًا وأن حديثي سيكون مختلفًا لكنه يقدر لي صراحتي، ثم يردف معقبًا بإيموجي ابتسامة : يا ريتك كنت صنيعة أجهزة !! ضحكت معه ولم أسترسل لكن بقي الود رغم الاختلاف .. والاختلاف الشديد كما وصفه هو ذات مرة .. بقي الود وبقيت المحبة وكان ممتنًا للغاية حين ذكرت أنه أحد نجومي في وقت كان البعض يتنصل منه، بل أن أحد أصدقاءه قابله في منتدى دولي للصحافة والتقط معه صورة ثم قال له أنه لن ينشر هذه الصورة حتى لا يؤذيه أحد !! .. أوجعت الكلمة محمد لكنه كعادته .. تفهم، ومر، ولم يعقب ، بل وسامح رغم كل شئ .

(8)
المشهد السادس : محمد يصاب بالسرطان .. يعلن عن ذلك .. أرى حازم دياب جديد وأبكي في صمت . لماذا ينتقي هذا المرض اللعين أنبلنا .. لماذا حازم وحنان كمال ومن قبلهما حسام تمام ومن بعدهم أبو الغيط نفسه . ما الحكمة التي لا نراها، وهل ننتظر دورنا ؟؟! .. يوم صعب، ووسط مئات الرسائل يرد عليّ محمد ليطمئنني .. جميل كعادته .. حزين وقلق على ابنه وزوجته .. فيما بعد .. ربما بعد عدة أشهر .. عاش محمد أسوأ أيامه قلقًا على زوجته وابنه بعد استيقافهما في مطار القاهرة في إحدى الزيارات .. يتم سحب جواز السفر ويسألني محمد عمن يمكن أن يساعد .. لم أعرف كيف لي أن أتصرف ..في فترة من الفترات تقترب وتبتعد عن المشهد رغمًا عنك وليس بإرادتك .. قبل أن تتعلم متى تصنع قراراك .. وقتها كان الأمر كذلك، وكنت بعيدًا .. لا أعرف بمن أتواصل .. قلت لمحمد : هذا إجراء متوقع يا محمد، فلماذا جاءت ؟؟ .. أنت تعرف كيف سيتم التعامل، وأن هناك من يصنفك في خانة الهاربين ويضعك جنبًا إلى جنب مع هؤلاء .. أشرت له بموقف مشابه حدث قبلها بأيام مع زوجة أحد الإخوان السابقين، وهو بالمناسبة شقيق رئيس تحرير، ووقتها لم يكن يعرف ماذا يمكن أن يفعل !!! أخبرته أن الأفضل أن يلجأ للنقابة، ووقتها أخبرني أنه يتواصل بالفعل مع ضياء رشوان على أمل . لم يرد محمد على الفور . لم يرد إلا بعد عدة أسابيع ليعاتبني ويخبرني أن رسالتي له ( لم تكون موفقة ) في توقيتها . هذا بالضبط توصيفه ( لم تكن موفقة ) .. هذا هو محمد .. هذا هو محمد .. قال إنه يحبني، وأن الموقف تم حله، وأنه يفهم جيدًا ما حدثته عنه، وأن هذا كان (عتابًا) لأخيه الأكبر .. وقلت له وقتها : بعد فترة ستفهم وتعرف لماذا قلت لك ذلك، وأن المهم هو أن تهتم بعلاجك . ولكي يثبت محمد أنه لا يزال يحبني فعلًا ولا رواسب لديه من الموقف، بل لعله فهم ما أرمي إليه، كان الأسبق برسالة تهنئة بعيد ميلادي، وبعيد الفطر، وهو الذي لم يكن معتادًا على ذلك .. محمد أبو الغيط كان نبيلًا، ولم أعرف نبيلًا يشبهه حتى الآن

(9)
أخبرت محمدًا بأنني من ذوي ( الشينجن)، وأنني سآتي إليه لأزوره في انجلترا، لكنه جعلني أشعر أنني ذلك الغر الساذج حين أخبرني أن الشينجن ألغيت من انجلترا .. حزنت للغاية، وكنت عازمًا على أن أزوره بالفعل، ويومها حدثته عن ( الكتاب ) .. يجب أن تصدر كتابًا يا فتى .. هذا الجمال المتدفق فيما تكتبه عن تجربتك مع الألم والمرض .. عن مفردات حياتك التي تبدلت .. عن أمك وسلاحها السري في الدعاء لك .. أرجوك يجب أن يصدر .. قال لي أنه بالفعل سلم الكتاب للشروق، وأن حلمه أن يأتي لمصر في المعرض، ورجوته أن يحترس من ( البوس والتفعيص) لأجل مناعته، بل ووعدته ب( جولف كار ) تطوف به المعرض، لكنه كان يرى ( فبراير) بعيد .. بعيد جدًا .. وهو في انتظار أي ( بارقة أمل ) كما قال .. أطالبه باليقين .. بالصبر والاحتساب .. باستخدام السلاح السري الشخصي الخاص به .. يرد بيأس : ” ماعنديش .. اتوفى حازم دياب وغيره اكثر صلاحا ويقينا وكله . وده وعد الله للمؤمنين .. ليس النصر دايما ولا الشفا دايما .. بل (لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع)، وبأن يرفع بالشوكة يشاكها درجة اخروية .. مش بالضرورة يشيلها في الدنيا .. مقدرش افكر الا كدة .. احتمالات .. باحاول اعزز احتمال الشفا قدر الامكان .. لكنه احتمال مقدرش احسه يقين ” .. رددت عليه بكل ما استطعت بثه إياه من أمل .. قال إن فبراير بعيد فسألته : بعيد عن ربنا ؟؟ .. وكان يعلم أنها محاولات صادقة في ( تصبيره ) على بلائه الذي مهما قال أحد أنه يستشعره فلن يشعر به حقيقة .. فبراير بالفعل بعيد يا محمد .. لكن الله دائمًا قريب، وفي جوار الله ذلك أفضل يا صديقي وأخي الأصغر الحبيب ..

(10)
الأسبوع الماضي بعثت برسالة لمحمد : حبايبك كلهم هنا بيحتفوا بيك .. كنت أقصد تكريمه في منتدى مصر للإعلام، واللفتة الراقية والإنسانية من منظميه .. جاءني صوته منهكًا بأنه كان يأمل في المجئ .. وأنه سعيد من أجل هذا التكريم .. ووعدته بأن نلتقي في فبراير القادم بإذن الله .. ومن يدري يا محمد .. من يدري يا حبيبي .. إنا لله وإنا إليه راجعون .

 

-للمزيد: موقع التعمير للتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيس بوك التعمير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى