منوعات

د. ريهام سمير تكتب : تشارلز ديكينز .. ومتجر التحف القديم!!

قبل أن ينطلقا بعيدًا، ويتوغلا عبر تشعبات المساكن، التي تفصل بينهما وبين أطراف المدينة، كان نور الصباح قد أُشرق، وشاع الصخب، ودبَّت الحياة حيثما كانا.

حلَّ صوت صرير العربات والحافلات محل الصمت المطبق، مبددًا سحر هدوء الصباح، ظلت العربات تتعاقب الواحدة من وراء الأخرى، في تتابع دون انقطاع، إلى أن ازدحمت الشوارع.

ما كان مثيرًا للعجب حقًا في البداية، رؤية نوافذ المتاجر مفتوحة في ذلك الوقت المبكر، لكن ما تبيَّن لاحقًا، هو أن رؤيتها مغلقة هو الأمر نادر الحدوث، تصاعد الدخان ببطء من المداخن، رُفعت أطر النوافذ سامحةً بتخلل النسمات، فتحت الأبواب على مصاريعها، ظهرت الخادمات كسولات –بما تحمله الكلمة من معنى- على الرغم من أن مقشاتهن كوَّنت سحبًا بنية من الغبار، طافت أمام الأعين الناعسة للمارة، استمعا على نحو بائس إلى أصوات بائعي اللبن ذات الصدى الذائع بين أسواق البلدة، مارين في الأزقة بعرباتهم المظللة، صارا يتساءلان عما سيصادفان رؤيته، في الساعة التالية من رحلتهما.

اجتازا معًا ذاك الحي، وأصبحا عندئذ في مكان تنتشر فيه المتاجر، ويكثر فيه الازدحام؛ حيث يتردد عليه وفود من الناس، وتكثر فيه الأعمال التجارية. بُهت العجوز من فوره، وبات يحدق في ما حوله في ريبة، ويتملكه الارتباك؛ ودَّ فعلًا تجنب مثل هذه الأماكن. ضغط بإصبعه على شفتيه، ومن فوره توجه بالطفلة نحو أزقة ضيقة وطرق ملتوية، لم تبد عليه أي إمارة من إمارات الراحة مطلقًا، حتى أصبحا على مسافة بعيدة، تاركين المكان ومن فيه وراءهما، بعد أن التفت العجوز إلى الخلف كثيرًا، قال مغمغمًا أن الخراب وقتل النفس جاثمان في كل شارع وزقاق، إذا أحسا بوجودهما فقط ، لانقضا عليهما في الحال، وبهذا لن يتمكنا من الهروب سريعًا.

مرة أخرى، وبعد أن اجتازا ذاك الحي الآخر، أصبحا الآن في حي أكثر صخبًا، قسِّمت فيه المنازل إلى حجرات كثيرة، ورقِّعت فيه النوافذ بالأوراق والخِرقات، لتنم في وضوح عن فقر من يسكنون فيها. حيث لا تبيع المتاجر سوى البضائع التي يقدر على شرائها الفقراء، ويكون فيها البائع والمشتري سيان، يتشابهان في عوزهما.

لم تبد شوارعه فقيرة؛ بل كانت أقرب إلى ركام هش لحطام سفينة مُكوَّم في مساحة ضيقة. على الرغم من ذلك كله، كان يتوافد إليه محصلو الضرائب، والدائنون، مثلما يتوافدون على أي مكان آخر. على أي حال، يعتبر الخاضعون لصراع الفقر القدري أقل دونية من غيرهم، مِمَن استسلموا وكفّوا عن المحاولة منذ أمد طويل.

لقد كان مسارًا طويلًا، طويلًا حقًا، على التابعين الذين سكن التواضع نفوسهم، مِمَن أرادوا التخييم في معسكر الثروات، ولم يسعهم سوى نصب خيامهم حوله، على بعد عدة أميال –لكنهم على كل حال حافظوا على طباعهم كما هي.

تقف حائرًا أمام المنازل الرطبة التي توغل فيها العفن، والمنازل التي تُبنى، أو التي بُنيت بالفعل، أو غير مكتملة البناء، أو حتى النزل المستأجرة؛ لا تعرف أي منها يجب أن تشفق عليها أكثر، لا تعرف ما إذا كان هؤلاء هم من سمحوا، أم أن أولئك هم من أتوا ليستبيحوا، ترى الأطفال في كل شارع يتمرغون في الوحل، لا يهنئون بملبس أو بمأكل وفير.. تسمع النساء المكثرات من التوبيخ، يدبدبن بأقدامهن المتسخة داخل خِفافهن على الرصيف، متوعدات بتهديدات صاخبة بملء أفواههن.. تبصر الرجال بائسين في هيئة رثة، يهرعون إلى عملهم، فهو السبب الرئيس الذي يجلب لهم (لقمة العيش اليومية) أو أكثر من ذلك قليلًا.. تجد السيدات يغسلن الملابس، ويعصرنها، تجد الإسكافيين، والخياطين، وصانعي الشموع، يزاولون حرفهم في الصالات والمطابخ والغرف الخلفية، وعلية المنازل، أو تجدهم أحيانًا مجتمعين كلهم تحت سقف واحد.. ترى حقول القرميد تطوق الحدائق بعِصِي البراميل الخشبية القديمة، أو بأخشاب نُهبت من ركام البيوت، يُشعل فيها النيران، ويُطبع عليها اللون الأسود الفاحم دائمًا.. تلمح أكوامًا من القش وأعشاب القراص والحشائش وصدف المحار، مبعثرة في حالة من الفوضى.. تجد أن الكنائس التعليمية الصغيرة مليئة بزخارف ورسومات تجتر مآسي الأرض، بينما تجد الكنائس التي تعبد طريقك إلى الجنة جديدة وكثيرة، بُنيت بأموال طائلة.

وكما تجري مثل هذه الأمور، أصبحت الشوارع أكثر ضيقًا، تكاد تكون حركة السير فيها متوقفة، وأضحت المساحات الشاغرة تتضاءل ومن ثمَّ تتضاءل أكثر فأكثر، حتى لم يعد يبقى منها سوى رقعة صغيرة في حديقة، تقع بمحاذاة الطريق، تحدها العديد من الأكواخ الصيفية، باهتة الطلاء، مبنية بأخشاب قديمة، أو ببقايا ألواح القوارب الخشبية، حيث اكتست حواف أرضياتها باللون الأخضر، بسبب ما نما حولها من سيقان الملفوف، قبعت بين تشققاتها قواقع لزجة، وعيش الغراب. تأتي بعدها الأكواخ الريفية، مشيدة اثنين إلى جوار اثنين، في مقدماتها ساحات خضراء، في أحواض تتخذ زوايا، تحدها أسوار متيبسة، يفصل بينها ممرات ضيقة، لا تطأها الأقدام أبدًا، فبقى حصاها خشنا.

ثم تأتي بعدها حانة في طلاء زاه، باللونين الأخضر والأبيض، تحيط بها حدائق الشاي وساحة لعب القناني الخشبية الخضراء، وبالقرب منها توجد حظيرة خيل، حيث تتوقف العربات، ثم تظهر الحقول، وبعدها بعض المنازل، منزلًا أمام الآخر، تحدها مساحات واسعة من المروج، بالإضافة إلى وجود بعض النزل، حيث سكن العتال وزوجته. يأتي بامتداد كل ما سبق الشارع الرئيسي، ومن بعده يتواصل وجود الحقول مرة أخرى، حيث الأشجار وأكوام التبن، إلى أن نصل إلى تل، على قمته، ربما يقف المسافر؛ لينظر إلى الوراء، حيث تلوح على مرمى بصره قبة كاتدرائية القديس بولس عبر سحب الدخان، شامخة في الأفق، وصليبها يعلو السحب -إذا كان اليوم صافيًا- لامعًا بفعل انعكاسات وميض أشعة الشمس، ثم تجتذب الضوضاء انتباهه، فيوجه ناظريه نحو مصدرها، حتى يرنو بهما إلى أبعد نقطة بالأسفل حيث طوب وقذائف الهاون للبؤر الاستيطانية للجيش الغازي، التي يقع مركزها بالكاد أسفل قدميه، ليشعر في النهاية أنه كاشفٌ للندن كلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى