يفعلونها بدمٍ بارد، كما لو أنهم أعداء الشرفات!.. تجدهم وقد أغلقوا الشرفة الوحيدة أو الرئيسية للشقة الخرسانية، ثم يغطونها بالستائر، طمعًا في الاستفادة من مترين زائدين وإضافتهما إلى غرفة الجلوس أو لصنع غرفةٍ زائدة سواءً للنوم أو الطهي.
الفن الهابط المبهم نعيٌ عصري لمفهوم الشرفة.
يتلاشى الجمال ونغطيه بالزجاج أو الصدأ. يفسد كسمكةٍ في ظهيرةٍ حارة، ويذبل مثل زهرةٍ نسيها الماء. في غارةٍ للقُبح، ينزلق البهاء وسط تضاريس الطابوق.
يسملون أعين البيت، ويحجبون عنه جغرافيا السعادة من الأشجار المعمرة والشارع العامر بفلاسفة النهار وصعاليك الليل.
يحذفون الشرفة من البيوت والقواميس، فيحرمون أنفسهم من مُتع الفُرجة والتأمل على مهل تحت أشعة الشمس الناعمة، ويصادرون صفير الشيوخة الخفيف على مقعد الزمن، ويشطبون نغمات العالم التي يرتجلها المارة وقائدو المركبات والباعة الجائلون.
في لحظة طيش، يستولون على مساحة الشرفة، فلا نعود نرى أوراق الشجر وهي تنمو أو تستسلم للريح، ولا نُبصِرُ الطيور وهي ترسم حلقاتٍ في الهواء، ولا نتابع صخب الموج، ولا نشهق لرؤية ارتعاشات الضوء، ولا نشاهد النهار وهو يميل إلى نهايته.
الشرفة تيهٌ مُستحب. غابة الإلهام للعيون التي نسيتْ كيف ترى. قارةٌ قصية نحتفي بأنها في متناول البيت. تطلق تهويدةً لتستدرجك، حتى تكاد تسمع غناء رئتيك. مقاعدها، تحمل دفء جسدك، ورائحة النعناع المُعد للتجفيف، والفطائر المرشوشة بالعسل أو سلة العنب التي تشتهيها، والأبخرة الطالعة من كوب شاي ترتشفه في عصر يوم هادئ. على أريكتها، بوسعك أن تنام ملتحفًا بمعطف أزرق في ليلة باردة.
تتوهج في الهواء الطليق، وتنتعش في السكون، توحي هندستها الخارجية بالأغاني والسفر. تستمتع بالأسراب الفاتنة من رذاذ المطر المتلألئ، وتقيم على حافة الشرفة بهجةً من ألف عام.
يا للجمال المتروك على سجيته!
لا توجد شٌرفة خاوية، فغياب أبطالها، لا يعني أبدًا غياب سحائب الذكريات.
اختفاء الشرفات دليلٌ على الانحطاط، والاستغناء عنها آخر أمارةٍ للجنون.