تسلم “حسنى مبارك” دفة سفينة “الجمهورية الثانية” فى لحظة يصعب وصفها.. قل عنها قاسية.. يمكنك أن تراها عاصفة..
يجوز وصفها بأنها “حالكة السواد” وأضف من عندك ما شئت فى توصيف هذه اللحظة.. فهى لحظة اغتيال “بطل الحرب والسلام” وسط رجال القوات المسلحة والشرطة ورجال الدولة والإعلام, بحضور دبلوماسيين يمثلون دول العالم.. الجريمة وقعت على الهواء مباشرة, وخلال دقائق خاطفة.. مذهلة.. صادمة!!
تعلم “حسنى مبارك” نائب الرئيس لنحو سبع سنوات, القواعد الأساسية للحكم وفق منهج “الجمهورية الثانية” مع الحرص على الابتعاد عن “الجمهورية الأولى” بما لها وما عليها.. جعل علاقته بها بضع كلمات خلال المناسبات الرسمية..
قام بتثبيت طرفى “معادلة الحكم” بالحرص على وجود “جماعة الإخوان” بضوابط, مع التحكم فى إيقاع الفساد وتنظيم خطواته.. كان قد فهم تعليق الفشل دائما على شماعة من سبقوه فى الحكم.. إعتمد طريق مشروعات “البنية الأساسية” الضرورية لجذب الاستثمار..
تعلم أن يقول للشعب كلاما, ويفعل ما يراه حتى لو كان فى الاتجاه المعاكس.. أدرك أن تمجيد السلام يوفر له شهادة ضمان للاستمرار على الكرسى.. نزع “أنياب الديمقراطية” وابتكر “ديمقراطية خرساء” عاجزة عن فهم المجتمع.. أو التفاهم معه.. لم ينس رضا “واشنطن” ودول الغرب.. إبتعد عن صداع القومية العربية, وتجنب التفاعل مع قارة إفريقيا.. إعتمد على “رجال مال” تولى تصنيعهم بمعايير تجعله قادرا على ترويضهم.. راح يتخلص من بقايا رجال السياسة, الذين تمرسوا خلال الخمسينات والستينات.. كان يقدمهم خطوة, ويبتعد عنهم خطوتين واستراح برحيل “فؤاد محيى الدين” و”رفعت المحجوب” مع حرص على عدم استفزاز “محمد حسنين هيكل” وأمثاله من الذين يقدرون على التفكير والكتابة!!
كانت أحداث “الأمن المركزى” فى 25 و26 فبراير 1986, أصعب اختبار تعرض له.. أنقذته منه القوات المسلحة بضمير وطنى كان يمثله المشير “محمد عبد الحليم أبو غزالة” حتى تخلص منه بطبخة مسمومة!! بعدها راهن على “الشرطة” لكى تحقق “الأمن والاستقرار” واعتبرها السبيل لابتزاز كل من يناوشه – داخليا وخارجيا – وجعل “بذرة التوريث” ساكنة فى عقله الباطن.. حتى شب أولاده على الطوق, فراح يخطط لكى يسلم ابنه – جمال – الحكم.. واستراح لحالة السكون التى فرضتها “القوات المسلحة” على نفسها.. وجد أن علاقته بدول الخليج, فيها منافع كثيرة فجعل أمنها “خط أحمر” قولا.. وفعلا خلال أزمة الخليج والحرب على العراق!!
أخذ “حسنى مبارك” سياسة “الباب الدوار” مع معارضيه كأسلوب.. فهو يقدم على اعتقال وإبعاد بعضهم, ويفرج ويقرب منه البعض الآخر.. حافظ على وجود الأحزاب داخل مقراتها فقط.. وكشف فلسفة حكمه قبل رحيله بأيام – خليهم يتسلوا – فدفع ثمن غلطته!! لكنه أدرك متأخرا, فراح يستثمر “الغلطة” لعلها تفيد ابنه – جمال – من بعده.. بعد رحيله بدا أن ما أراده فى الوقت الضائع, يمكن أن يكون حقيقة وواقع.. فقد عاد “جمال ورفاقه” لحظة احتضار “الجمهورية الثانية” أملا فى إنقاذها!!
لا تحتمل فكرة حكم “الرئيس الثانى” فى زمن “الجمهورية الثانية” أن نقف أماها طويلا.. والمفارقة أنها كانت لسنوات طويلة جدا – 30 عاما – ويدهشك أن نصف مدة حكم “مبارك” كانت كلها فى “أزمة سلطة شاخت فوق مقاعدها” على حد تعبير “محمد حسنين هيكل” فى رسالته إلى الصحفيين, وقت ما أطلقنا عليه “أزمة القانون 93 لسنة 1995” التى تحايل عليها مبارك باحترام صوت العقل.. رغم أنه كان يطلق على نفسه: “عندى دكتوراه فى العند”!! لكنه للإنصاف كان يعاند الجميع, ولا يعاند نفسه لأنه كان يحمل صفات “ضابط الطيران المقاتل” بكل ما فيها من تفاصيل.. كما يجب أن نذكر له أن الأقدار أنصفته.. فقد انتشلته “أزمة الخليج” من معضلة اقتصادية كانت قد أصبحت مزمنة منذ العام 1975, لأن ثمن تفاعله معها كما أرادت “واشنطن” ودول الخليج.. كان بإسقاط جزء كبير من ديون كادت ان تخنقه.. جاءته هذه الفرصة عندما ذهب إلى “مناورة” بالاقتراب من “صدام حسين” دون أن يدرى شيئا عن “مغامرته الكبرى” التى ذهب إليها باحتلال “الكويت” الذى كان أشبه بقنبلة نووية عصفت بالعالم العربى!!
تميز الذين حكموا “الجمهورية الثانية” بأنهم لا يقرأون غير ما يصدرونه من قرارات.. لذلك سنجدهم جميعا صدقوا أن “الديمقراطية” مرض والعياذ بالله.. لم يعرفوا أن “الديمقراطية” إطار لنظام سياسى له أبعاد وأعماق اجتماعية.. تصوروها تهديدا مباشرا لوجودهم فى مناصبهم المرموقة.. رفضوا الاجتهاد للفهم بأن “الديمقراطية” ليست “وجاهة” للحاكم يسترضى بها الغرب.. ولعل الذين سيحكمون فى “الجمهورية الثالثة” يدركون – بل يجب أن يكونوا واعين – أن الديمقراطية على الطريقة الأمريكية.. تختلف عن البريطانية.. وكليهما لا علاقة له بديمقراطية “الحزب الشيوعى” فى “الصين” وبينهم “ديمقراطية” أخرى فى “روسيا” و”المانيا” و”البرازيل” وحتى “إسرائيل” التى تعتمد “ديمقراطية” عمودها الفقرى “الجيش” الذى يمسك مفاصل هذا الكيان!!
يأخذنا التاريخ إلى وقائع وحقائق, تذكر أن مصر عرفت – ومارست – الديمقراطية قبل نحو قرن ونصف.. هى ليست مبالغة.. لكنها أحداثا نامت فى كتب التاريخ.. حان وقت إيقاظها.. فالتاريخ الذى يعتقد البعض أنه “فولكلور” يعلمنا الكثير!! لأن مصر عرفت النظام النيابى عام 1866 عندما لجأ إليه “الخديوى إسماعيل” بضغط غربى.. قرر إنشاء “مجلس شورى النواب” لتجميل وجه حكومة “نوبار باشا” التى كانت تضم وزيرين أحدهما إنجليزى والثانى فرنسى.. لجأ “الخديوى” لقبول هذه الفكرة ليتجنب إعلان إفلاس مصر بسبب الديون الأجنبية.. إختار وجهاء المجتمع لتمثيل الشعب.. راهن على أنهم “سيبصمون” على قراراته..
إستحكمت الأزمة ليجد النواب أنفسهم أمام مسئولية كبرى تجاه الوطن والتاريخ.. رفضوا الإذعان لشروط الدائنين.. أعلنوا أن مصر قادرة على تسديد الديون من الدخل القومى.. إستشعر مندوبى إنجلترا وفرنسا الخطر.. تحركوا لإحباط شعور النواب الوطنى وتفكيرهم فى إنقاذ بلادهم من الخطر.. ولما كان صباح يوم 27 مارس عام 1879, توجه “رياض باشا” إلى قاعة مجلس النواب.. كان مقرها القلعة.. قرأ قرار فض الدورة البرلمانية.. فوجئ بأن النائب “عبد السلام المويلحى” يقف ليسأله: “كيف ينفض عمل المجلس قبل نظر القانون الخاص بالشئون المالية.. نحن هنا نواب عن الأهالى, واجبنا الدفاع عن حقوقهم.. مستحيل فض عمل المجلس”..
أخذت الصدمة “رياض باشا” وكان وقتها “ناظر الداخلية” قبل أن نستخدم كلمة “وزير”.. فهو لم يتعود أن يسمع كلمة “لا” من مواطن مصرى حتى لو كان نائبا عن الشعب.. وجه الناظر – الوزير – كلامه إلى “النائب” ليسأله: “ماذا تقول؟! مستحيل فض عمل المجلس؟!.. كيف يكون الأمر مستحيلا وهو أمر من خديوينا المعظم؟! هل تفهم معنى ما تقول؟!”.. ثم نظر إلى الأعضاء وخاطبهم قائلا: “لا أظنكم توافقون على ما يقوله زميلكم”!!
إعتقد “ناظر الداخلية” أن الأمر انتهى.. تتابعت المفاجآت خلال دقائق.. إندفع الأعضاء يعلنون تضامنهم وتأييدهم لزميلهم.. هنا صاح “عبد السلام المويلحى” قائلا: “نحن نمثل سلطة الأمة.. لن نخرج من المجلس قبل إتمام واجبنا”!! تلعثم “رياض باشا” وقال: “حضراتكم تقلدون نواب فرنسا عندما ثاروا على حكومتهم.. يعنى حضراتكم بعمائمكم والجبة التى تلبسونها, تقلدون نواب أوروبا وأمريكا”.. وكان يتحدث بلغة كلها سخرية!!
سمع الناظر – الوزير – الرد على إهانته للنواب, بقسوة جعلته أضحوكة.. صاح فيه “النائب” أحمد العويسى: “يا باشا.. أنت تهين نواب أمتك التى تعطيك أنت وغيرك مرتباتكم الشهرية”.. وقال “النائب” عبد الشهيد بطرس: “كلامك هذا يا باشا وقاحة.. المجلس لا يقبل وقاحتك”.. ثم أضاف “النائب” أحمد الصوفانى قائلا: “أوافق على رد الإهانة لناظر الداخلية, حتى يعلم أننا أمة حية لها نواب يدافعون عن كرامتها”.. تدخل “النائب” عبد السلام المويلحى موجها كلامه للوزير: “سمعت يا باشا.. عرفت عواقب تسرعك فى الكلام.. يجب أن تعلم أننا نواب عن الأمة, نخجل أن تكون وزيرا فى حكومة يزاملك ضمنها وزير فرنسى وآخر انجليزى.. أنت تعلم أنهما خفيران عليك وعلى الحكومة.. وقد عرفنا أنك جمعت أصحاب الجرائد, وقلت لهم عن النواب أنهم همج وجهلاء.. كيف تقول هذا عن نواب بلادك.. نحن نمثل مصر العظيمة.. نحن درسنا جميعا فى الأزهر الشريف”!!
تفاصيل الواقعة نائمة فى كتب التاريخ ومضابط البرلمان.. أحياها “جمال بدوى” عبر صفحات كتابه “مصر من نافذة التاريخ” قبل نحو ربع قرن.. تم دفن الكتاب إلى جانب المضابط.. وبقيت أمة “إقرأ” تخاصم القراءة, وتترك عقلها للإخوان والفساد مع الذين يتولون رعايتهم.. لتكتمل “المسخرة” أن هؤلاء يحدثونا عن “الديمقراطية” ونصل إلى “المهزلة” عندما يقدم لنا “الثرثار باشا” وهو لا يمكن أن يكون حفيد “عبد الشهيد بطرس”, مع “رجل السيراميك” الذى يستحيل أن يكون حفيد “المويلحى”.. دروسا فى ديمقراطية “لندن” و”واشنطن” التى توظفهم بديلا عن الوزيرين الفرنسى والانجليزى!!
إنتهت الجلسة بأن غادر “رياض باشا” القاعة منفعلا, وهو يصرخ: “أنا منسحب.. أنتم عصاة.. أنتم ثوار”!! ليقول “المويلحى” لكاتب الجلسة: “لا تحذف حرفا واحدا مما قيل فى الجلسة اليوم.. لتعلم الأمة من هم الهمج.. النظار – الوزراء – أم النواب”!! وأعلن أن الجلسة مستمرة.. إهتزت الدنيا..
إستقالت الوزارة.. ثم كانت ثورة “أحمد عرابى” وزير الحربية التى تمسك خلالها بان يكون لمصر “دستور” و”مجلس نيابى” ليتم احتلال مصر بدعوة أن “أحمد عرابى” ورفاقه من العصاة.. وللقضاء على الثورة فى مهدها.. وهذا تاريخ تم طمسه لكى ينفرد الذين يتحدثون عن “المدنى والعسكرى” بالساحة.. فإذا كانت بريطانيا قد احتلت مصر بعد حل الجيش المصرى, والقضاء على ثورة شعب رفض بيع وطن مقابل الديون.. فقد تحمل مسئولية الرفض نواب الأمة.. حمل المشعل “أحمد عرابى” مع “محمود سامى البارودى” ليتم تنصيب “الخديوى الخائن” إبن “إسماعيل”.. واسمه “توفيق” حتى حرر الوطن أبناء مصر من “الجيش” بقيادة وزعامة “جمال عبد الناصر” الذى واجه ذيول الاستعمار.. للأسف استخدمهم الذين حكموا “الجمهورية الثانية” ترغيبا وترهيبا.. وبلغت المأساة ذروتها بتمكينهم عن جهل, بالسخرية من الشعب واعتباره مسئولا عن التخلف..