عشت طفلا فى “زمن الجمهورية الأولى” وكان شبابى فى “زمن الجمهورية الثانية”!!.. أصبحت شيخا يبشر بأن “الجمهورية الثالثة” قادمة.. وإن طال الزمن!!
أعلم أن الانحياز للحقيقة, ثمنه فادح.. كما أعرف أن “الزيف” له بريق يخطف عيون السفهاء!!
تعلمت أن “الجمهورية الأولى” وتوضيح حقيقة ما أنجزته.. لا يجلب غير المعاناة والألم.. وأن الدفاع عن “الجمهورية الثانية” يفتح طريق العطايا السحرى من الغرب والخليج!! شغلت نفسى بأن أتعلم وأعلم.. إرتبكت أحيانا.. لا أنكر.. سقطت فى بئر الخديعة.. هذا حدث.. لكننى كنت دائما أحاول أن أعرف وأفهم.. لا أتوقف عن البحث بالقراءة..
وصلت إلى “جزيرة الأمان” وعنوانها “الصدق” مع النفس والناس.. تأكدت أن الثروة الحقيقية, هى أن تفوز بالاحترام.. وأن المال والشهرة يمكن أن يحصل عليهما قاتل أو لص.. وبسهولة يحققهما تاجر مخدرات أو سمسار.. ويصل إليهما الخائن من أقصر الطرق!!
التاريخ لا يفهمه.. أو يكتبه.. عاشق ولهان!!
الزعامة لا يصنعها إعلام.. أو نفوذ.. ولا ثروة!!
الشعوب تحترم من أعطاها.. وتلعن كل من خدعها أو خانها!!
الانحياز للوطن يجعلنى أرفض تشويه “ثورة 23 يوليو” ويدفعنى إلى التنوير بما أعطته.. يجعلنى أزداد قناعة بأن “الحقيقة” قد تغيب.. لكنها لا تموت.. وأن “الزيف” زائل مهما حدث لإطالة عمره.. لذلك يبقى “تقدير” المجتمع أغلى من “تقديس” الحاكم.. سواء كان الحاكم حيا او ميتا..
والحقيقة تؤكد أن أعداء “الجمهورية الأولى” والذين يتاجرون باسم زعيمها وقائدها, إنكشف أمرهم بعد نصف قرن من رحيله.. وأن الذين يرفعون رايات “الجمهورية الثانية” جمعوا ثروات وحصلوا على مناصب.. أخذتهم إلى طى النسيان فى أحسن الأحوال!!
إذا كنت من الذين يدافعون عن “عبد الناصر” أو السادات” والذين حكموا بعده.. فأنت تعلم أن “عبد الناصر” ذهب وبقى ما حققه.. وتعلم أن “السادات” رحل دون أن يرحل منهج حكمه.. ويعلم كل من رفض أن يلعب دور “المهرج” أنه يتم استبعاده.. لأن “أراجوزات التنوير” مع “جامعى أعقاب السجائر” فقط هم الذين يتصدرون المشهد فى “الجمهورية الثانية” دون حاجة لفهم ما يسمى “الجمهورية الجديدة” لأنها تجرى وراء سراب “الرخاء والرفاهية” إعتقادا فى أن “تجارة الأوهام” هى الرائجة!!
إنتهيت من قراءة كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” الذى كتبه “موسى صبرى” دفاعا عن “مؤسس الجمهورية الثانية”.. وهو فى حقيقته اجتهاد لشيطنة “عبد الناصر” عبر شيطنة “محمد حسنين هيكل” وصولا إلى شيطنة “الاتحاد السوفيتى”.. لأن الكاتب كان “عاشق ولهان” لحكايته ومشواره فى المهنة والحياة!!
لا أنكر على “موسى صبرى” إمكانياته المهنية – كصحفى – لكننى أنكر عليه قدرته أن يكون صاحب موقف, إو ادعاءه الإخلاص والصدق للقارىء.. فلو كان مخلصا أو صادقا.. لما أمكن أن يرتكب جرائم ارتكبها فى كتابه.. فهو يذكر كوارث أخذنا إليها “أنور السادات” مسبوقة بهتاف له.. وبعد أن يمررها فى سطور قليلة, يتذكر أنه “هتيف” فيبرر أن الرجل الذى اخترع “ديمقراطية لها أنياب” كان قلبه طيب!! ويدافع عن “بطل السلام” بأن الصهيونية اغتالت سيرته.. ويرى أن “أمريكا” خذلته.. ويذهب إلى ادعاء بأن “السادات” سبق عصره عكس “عبد الناصر” صاحب “اشتراكية الفقر” كما كتب.. يرى أن “الكذب” مهارة تستحق أن نحتفى بها..
ربما لاعتقاده أن “الصراحة” مجرد كلمة بلا معنى أو قيمة.. والمدهش أن الكتاب دفنه “حانوتية الثقافة” بعد أن اكتشفوا عجزه عن تحقيق هدف من أراد له أن يصدر.. كما فعلوا مع كتاب “كنت رئيسا لمصر” الذى نشروه باسم “محمد نجيب” أملا فى تحويله إلى “مسيح”..
وقد قدمت له قراءة فى سلسلة حلقات بعنوان “محمد نجيب الذى لا يعرفه المصريون” وتعمدت قراءته – فقط – بهدوء لحظة محاولة إعادة بعث دوره الهامشى فى تاريخ مصر.. ويدفعنى ذلك إلى وقفة قد تطول مع كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” باعتباره صادر عن أبرز محامى يدافع عن “الجمهورية الثانية” ويحق للذى يختلف مع قراءتى أن يقدم قراءة مغايرة.. لأن “عشاق السادات” قد تصيبهم صدمات كثيرة حين يعلمون أن
“موسى صبرى” ذكر هذه الحقائق عنه فى كتابه!!
يلخص “موسى صبرى” شخصية “أنور السادات” فى ثلاثة عبارات:
يقول عنه: “كان إنسانا فى جوهر تصرفاته.. غولا سياسيا فى قراراته.. أستاذا فى فن التعامل مع الواقع” ثم يذكر فى السطر التالى مباشرة, أن أحد قيادات منظمة التحرير الفلسطينية.. كان يطلق عليه وصف “الحنش” وبعدها يستعين بوصف الدكتور “رفعت المحجوب” له بأنه: “حمل وديع.. له زئير أسد”!!
المؤلف يراه “غول” والقيادة الفلسطينية تصوره على أنه “حنش” بينما الدكتور “رفعت المحجوب” ينظر إليه على أنه “حمل” له زئير “أسد”.. وكلها تتجنب أية أوصاف أو صفات إنسانية.. وإن كان قد أسهب فى القول أنه كان يصلى ويصوم ويقرأ القرآن.. لا يحب من يفطر فى رمضان.. وكلها تأخذك إلى سر إطلاق وصف “الرئيس المؤمن” عليه.. ربما لأنه قدم حكايات حول الوساطة بين “الرئيس” و”البابا شنودة” ليصل “موسى صبرى” إلى “إدانة البابا فى مواقفه” بعد فشله فى إقناعه أن “السادات” لا يتربص به!!
أربعة فصول فى بداية الكتاب خصصها لنشر وثائق محاكمة “قتلة السادات” وأقوالهم أمام المحكمة والنيابة.. حتى انتهى الأمر بإعدام بعضهم وسجن الآخرين.. وذكر أنه تعرض لعشرات المحاولات لاغتياله.. وكيف غدرت به “جماعة الإخوان” التى أطلقها وقت أن كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة!! ويذكر أن “السادات” أعطى للبابا أكثر مما كان يطلب بشأن بناء الكنائس.. وأنه كان لا يفرق بين مسلم ومسيحى..
رغم ذلك بقى الشيخ “عبد الحليم محمود” غاضبا عليه, كما كان “البابا شنودة” غاضبا منه!!.. وفشلت كافة المحاولات للتقريب بينه وبين “شيخ الأزهر” و”رأس الكنيسة”.. ويذكر “المؤلف” كثير من الحكايات والوقائع, حتى انتهى الأمر إلى قرارات 5 سبتمبر 1981.. ويذكر أن الدكتور “زكريا البرى” وزير الأوقاف نصحه قبلها أن يترك الأمر للحكومة, لأن الإجراءات التى ذكرها له شديدة.. ولو حدث وكان لها أثر سلبى, يتدخل رئيس الدولة لإصلاح الأمر..
لكن “السادات” رفض النصيحة موضحا أنه قرر المواجهة بنفسه.. فذهب إلى الصدام الذى انتهى باغتياله.. ويبرر “موسى صبرى” ذلك بأنه كان “عنيد” ويشعر أن كل ما فعله, يقابله كل هؤلاء بما أسماه “الجحود” وهى المرارة نفسها التى عانى منها كل الذين حكموا بعده!! دون أن يحاول أحدا منهم فهم سر ما يعتقدونه “جحودا” وأسبابه.. ربما لأنهم حكموا بمنطق “كبير العائلة” وتجنبوا منطق وقانون “الدولة” الذى انتهى بنهاية “الجمهورية الأولى” رغم أخطائها!!
يقدم “موسى صبرى” صورة “الرئيس السادات” بألوان مختلفة.. أحدها قوله عنه كان “صحفيا محترفا” متجاهلا واقعة شهدتها “كلية الاقتصاد والعلوم السياسية” يوم مناقشة رسالة دكتوراه تقدم بها “كرم شلبى” وكان ضمن المكتب الصحفى فى الرئاسة – 1978 – وعنوانها “أنور السادات الصحفى.. وثورة 23 يوليو”.. وضمن الذين ناقشوها كان الدكتور “عبد الملك عودة” والدكتور “خليل صابات” ويومها تصدى الدكتور “عبد الملك عودة” للباحث.. وقال له: “أن الصحافة خبر وتحقيق.. هل كتب “أنور السادات” خبرا أو قدم تحقيقا فى أى صحيفة؟!”.. فكانت الإجابة بالنفى.. ليرد الدكتور “عودة”: “إذن أنور السادات ليس صحفيا, وهذا فى حد ذاته ينسف رسالة الدكتوراه من عنوانها”.. ثم استدرك قائلا: “لكنك اخترت إحراج الجامعة والبحث العلمى, وقت جلوس الحاكم على كرسى السلطة.. ولو كان الأمر بيدى وحدى لرفضت رسالتك هذه”.. ثم تحدث مطولا عن أن “الجامعة يجب أن تبقى بعيدة عن محاولات العبث بمقدراتها.. وخلط العلم والدراسة الأكاديمية بالسياسة على هذا النحو”!!
رسالة الدكتوراه نامت فى مكتبات الجامعة – تم دفنها – رغم الاحتفاء بها إعلاميا وقتها.. لأن “السادات” كان يحب أن يقال عنه أنه كان “صحفيا” وفشلت كل هذه المحاولات فى حياته.. كما فشلت بعد رحيله حين ذكرها “موسى صبرى”.. لأن “حلمى سلام” نشر مذكراته فيما بعد ونفى أنه عمل بالصحافة كما كان يروج فى جلساته مع الصحفيين.. وكل هذه المعلومات والحقائق ستصدم “عشاق السادات” بقدر ما يحاولون إشاعة أنه أعاد “الديمقراطية” الضائعة فى “زمن 23 يوليو” التى كان أحد رجالها!! ثم يقول “موسى صبرى” فى كتابه نفسه.. أن “السادات” كتب مذكراته وسجل فيها: “إن مصر كانت تحكمها أحزاب فاسدة.. وزعماء خانوا الأمانة وخضعوا للمستعمر البريطانى!!
يعتقد “عشاق السادات” أن ذكر الشئ وعكسه عند الدفاع عنه, يمثل نوعا من الموضوعية.. دون إدراك أنهم يشاركون فى إدانته.. فهم مثلا يقدمونه على انه قارئ مثقف.. وذلك جعل “موسى صبرى” ينقل من مذكراته التى أشار إليها أنه كتب فيها: “إننى أميل إلى قراءة النوع الغرامى من الروايات.. لأن لها تأثيرا لطيف على حياتى.. فضلا عن أنها فيها تحليل للحياة, ولوجه شيق من أعظم وجوهها وهو الحب.. وكما يقول الألمان.. أن تحب لهى أعظم نعمة فى الحياة.. أليس الحب فى مختلف صوره هو أسمى عاطفة فى الوجود”!! ويأخذنا من هذه السطور لكى يقول: “عندما تولى السادات رئاسة الدولة.. كان دقيقا فى مراجعة خطبه باللغة العربية والانجليزية.. لأنه كان حريصا على الرتم والموسيقى فى تعبيره, وكان يؤثر دائما وجود النبض الإنسانى فى السطور”.. ثم يذهب إلى نشر جزء من مذكرات “السادات” قبل الثورة وعنوانها “30 شهرا.. فى السجن” باعتبارها عمل أدبى رفيع المستوى – وجهة نظر موسى صبرى – ولن أتوقف أمام تفاصيلها, حتى لا أضطر إلى التعليق على ما قرأت ترفقا بهؤلاء من “عشاق السادات”!!
كل الذين دافعوا – ويدافعون – عن “السادات” يتجنبون التقييم الموضوعى.. يخاطبون المشاعر لنيل عطف أو انتزاع محبة, لتكريس صورة “البطل” التى تبنتها “ماكينات الكذب وتزوير التاريخ” فى الغرب.. وتولى رعايتها “رجال المال” الذين صنعهم و”رجال الإعلام” الذين قدموا “اراجوزات التنوير” ليصبحوا نجوما عند لحظة نهاية “الجمهورية الثانية”!!
ينشر “موسى صبرى” فى كتابه نص سلسلة حوارات أجراها مع “السادات” تحدث خلالها عن علاقته القديمة مع “عبد الناصر” ليقول: “بعض الناس يتصور أننى وراء ما يكتب ضد عبد الناصر.. وهذا كذب.. ولكننى لا أريد أن أنهى الحرية.. لمجرد منع الكتابة عن عبد الناصر.. لا أريد أن أقول إكتبوا عن فلان, ولا تكتبوا عن فلان وإلا عدنا للوراء.. إننى مصر على طريق الحرية وبناء مؤسسات الدولة.. وهذا لم يحدث من وقت استقلالنا المبتور بتصريح 28 فبراير”!!
يدهشك “موسى صبرى” فى الكتاب نفسه حين يروى تفاصيل قرار “السادات” بمنع “جلال الدين الحمامصى” من الكتابة.. ثم قرار بمنع “مصطفى أمين” عندما سخر من “هرولة” نواب “حزب مصر” إلى “الحزب الوطنى الديمقراطى”.. وقراره بتعيين “إبراهيم سعدة” رئيسا لتحرير “أخبار اليوم” دون علم “موسى صبرى” رئيس مجلس الإدارة.. وإعلان القرار خلال مؤتمر صحفى.. بل يحكى قصة أوامره بفصل “كمال الدين حسين” من عضوية البرلمان, وكذلك إسقاط عضوية “كمال أحمد” و”الشيخ عاشور”.. وغضبه من “سيد مرعى” لأنه كان يجتمع مع رموز المعارضة وقت رئاسته للبرلمان, وأنه كان يعطى المعارضين وقتا للتعبير عن مواقفهم وتقديم استجوابات.. وأدى ذلك إلى أنه فاجأ الجميع باختيار “صوفى أبو طالب” رئيسا للبرلمان.. وإذا كان قد عبر على تفاصيل إبعاد عشرات الصحفيين عن عملهم قبل حرب اكتوبر.. فهو توقف أمام الفعل نفسه خلال أحداث سبتمبر 1981.. والتى اعتقل بموجبها كل ألوان الطيف السياسى من يمين ويسار ووسط.. شيوخا وشبابا.. دون أن يتمكن وزير داخليته – النبوى اسماعيل – من إمساك الذين قتلوا الرئيس, وكانت قرارات الاعتقال تشملهم!!
تفاصيل كثيرة يحملها كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” أرادها “موسى صبرى” أن تكون دفاعا عنه.. هتافا لصالحه.. لكنه ذكر كل ما ينسف مرافعته.. كل ما يجعلك تسخر من هتافه.. لأنه كتب بمهنية صحفى, واستخدم حبر العاطفة بحثا عن دموع البسطاء.. أما أصحاب العقول, فلابد وأنهم ستأخذهم الصدمة بعد الأخرى.. لأن الكتاب قال بوضوح أن “السادات” أراد إنهاء “ثورة 23 يوليو” والسير فى الاتجاه العكسى بعد أيام من توليه الرئاسة!!