منوعات

نصر القفاص يكتب : بنك القلق!!

أكرر كثيرا ما سبق أن كتبه “إدوارد خراط” داعيا للهدوء: “لو حاولت أن تفكر فيما يدور حولك لأصابك الجنون”!! واستيعابى للمعنى يجعلنى أبتعد عن الكتابة, كلما كانت مراجعتى لما عاشته مصر بعد “ثورة 23 يوليو” حاضرا فيها ذباب أخذ شكل مثقفين.. أسعى للتخلص من إزعاج “أراجوزات التنوير” لكى أتمكن من التركيز فى المعلومات والحقائق!!

يدرك الذين شهدوا عمليات تدمير الثقافة المصرية منذ انطلاق “الجمهورية الثانية” أن مصر تعرضت لخسائر فادحة, نتيجة هدم ما تم بناؤه خلال سنوات “الجمهورية الأولى” بما لها وما عليها..ويثير الأسى أن “خدم الملكية والاستعمار” يرون أن “زمن عبد الناصر” صادر الحرية.. هربا من واقعهم المرير الذى يشهد سلخ الحرية بعد ذبحها!!

يكفيك أن تقرأ “مذكراتى” التى كتبها “ثروت عكاشة” فى نهاية الثمانينات, لكى تجلس مذهولا.. حزينا.. تختنق وهذا طبيعى.. تبكى إذا كان ضميرك حيا.. بعدها ستعرف لماذا تم دفن شهادة أهم وزير ثقافة فى العصر الحديث.. كان الوزير الأول للثقافة والإرشاد هو “فتحى رضوان” الذى هاجمه “أنور السادات” قبل شهور من رحيله, بأن قال عنه: “الراجل كان لابس قناع لمدة سبعين سنة”!! لمجرد أن أول وزير ثقافة بعد “ثورة 23 يوليو” رفض أن يرهن ضميره أو يبيع كلمته.. واختار الدفاع عن “زمن العزة والكرامة” رافضا أن يعيش أوهام “زمن الرخاء والرفاهية” الذى وصلنا فى نهايته إلى حافة الهاوية!!
صدر قانون إنشاء “المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية” يوم 25 يناير عام 1956, على أن يكون هيئة مستقلة تابعة لمجلس الوزراء.. ثم كانت “وزارة الثقافة والإرشاد القومى” يوم 22 فبراير عام 1958, وتولاها “فتحى رضوان” لمدة ستة أشهر.. كان الهدف هو أهمية وضرورة ربط “السياسة الثقافية” مع “السياسة الاقتصادية” وكليهما يخدم مجتمع يجب أن يأخذ طريق “زيادة الإنتاج مع عدالة التوزيع” ليبدأ تنفيذ أول خطة ثقافية بعد انتهاء أعمال “المؤتمر العام الأول للمثقفين” الذى انعقد خلال شهر مارس عام 1959 بدار الأوبرا.. إتفق الجميع على أن: “الثقافة علم وعمل.. وأن المثقف بين العلم والعمل يجب أن يكون صاحب موقف.. لأن المثقف هو القائد فى المجتمع”.. وأعلن المؤتمر إيمان المشاركين فيه بأن واجب المثقف أن ينتشل “الذين دفعهم الجهل لأسفل”.. وهو معنى عكس “الجمهور عايز كدة” الذى جعلته “الجمهورية الثانية” قاعدة.. أو قل قانونا.. بل يجوز القول جعلته دستورا!!.. وضمن ما اتفق عليه المثقفون أن العلماء لهم معاملهم.. والساسة واجبهم تنظيم المجتمع.. بينما الفنان والمثقف يجب أن يكون مصباح ينير المستقبل.. وتحدث “لويس عوض” ليقول: “إن ما يسمى تحرير الثقافة من وصاية الدولة المقترنة بمسئولية وزارة الثقافة.. هو محض وهم كبير”!! ثم أضاف قائلا: “ليس معنى ذلك أن يتخلى الفنان والمثقف عن حريته.. لأنه لو حدث سنكون كما الأسد الذى تم حبسه, مع الخوف من تمرده ليكسر القضبان”!!

خرافة مصادرة الحريات تنسفها عناوين وأسماء واضحة كالشمس!

فى “زمن الجمهورية الأولى” قرأت مصر والعالم العربى لمبدعين مازلنا ننحنى لهم تقديرا.. بينهم: “رشاد رشدى” و”سعد الدين وهبة” و”على سالم” و”ميخائيل رومان” و”لطفى الخولى” و”نعمان عاشور” و”عبد الرحمن الشرقاوى” و”عبد الرحمن الأبنودى”و صلاح عبد الصبور” و”سيد حجاب”.. وكلهم كتبوا للمسرح, أوحملت حناجر المطربين كلمات أغنياتهم ومعهم “صلاح جاهين” و”أحمد شفيق كامل”.. وشاهد جمهور المسرح وقتها “فرافير” يوسف إدريس, الذين تهكموا من اشتراكية “عبد الناصر”.. و”شبراوى” الذى قدمه “سعد الدين وهبة” على أنه رجل مصر المريض.. و”على جناح التبريزى” الذى أبدعه “ألفريد فرج”.. وشاهد جمهور السينما روايات كتبها “نجيب محفوظ” منها “ثرثرة فوق النيل” و”الطريق” و”السمان والخريف” و”ميرامار” و”الشحاذ”.. وقرأ “أولاد حارتنا” على صفحات “الأهرام” كما قرأ “بنك القلق” الذى أزعج “عبد الحكيم عامر” لدرجة الغضب.. لكن “عبد الناصر” قال “للمبدع حق علينا أن نفكر فيما يطرحه”.. كما رفض منع عرض فيلم “شىء من الخوف”..

والقائمة تطول بأعمال كلها أثارت جدلا.. ولعل ذلك كان تفسيرا لما قاله “نجيب محفوظ” بعد رحيل “عبد الناصر” بسنوات طوال فى حديث نشرته مجلة “الشباب” وأقتبس منه نصا: “لن نجد مخلصا لم يقسم أمام عبد الناصر.. لأنه كان زعيم وطنى عظيم.. له إيجابيات لا تنسى.. وله أيضا سلبيات لا تنسى.. فإذا ذكرت إيجابياته تبكى عليه. وإذا ذكرت سلبياته تتحسر.. وأعداؤه يرفضونه لأنه نكل بهم, أما نحن كمبدعين فلم ينكل بنا.. بل أغدق علينا تكريما وأوسمة.. وقد خيل إلى فى جزء من عهده أننى أعيش فى دولة عظمى, وتأخذنى الدهشة من ولادة دولة عظمى بهذه السرعة”!!

انطلقت وزارة الثقافة لتبنى “قصور الثقافة” فى عواصم المحافظات.. ثم راحت تبنى “بيوت الثقافة” فى المراكز, ولم يكتمل البناء بإنشاء “دوار الثقافة” فى كل قرية!!.. وشهدت صدور سلاسل كتب بينها: “المكتبة العربية” و”تراث الإنسانية” و”المكتبة الثقافية” و”مسرحيات عالمية” بإشراف “إبراهيم زكى خورشيد”..

وتولى “لويس عوض” منصب مدير إدارة الثقافة, ويجب أن نذكر ما تعرض له من اعتقال وقت توليه منصبه بتهمة الشيوعية.. والمثير للسخرية أنه شيخ الليبرالية الذى حمل الراية بعد “أحمد لطفى السيد”,إعتقل بناء على تقرير أمنى استجاب لقصار القامة من مثقفين شكلا!! وتدخل “ثروت عكاشة” للإفراج عنه, لكنه رفض بعدها العودة إلى تولى مسئولية فى وزارة الثقافة.. والمدهش أن “ثروت عكاشة” ترك وزارة الثقافة عام 1962, وعاد إليها عام 1966 بعد أن قرأ “عبد الناصر” مقالا كتبه “لويس عوض” عرض فيه أن الجمع بين الثقافة والإعلام ستكون نهايته تدمير الثقافة.. وكان “عبد الناصر” نفسه هو الذى تمسك بالجمع بينهما, وأسند مسئوليتهما إلى “عبد القادر حاتم” لكنه عاد وقرر الفصل بينهما, وأعاد “ثروت عكاشة” نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة حتى رحل!!

تبقى “الهيئة العامة للكتاب” كثمرة من ثمار “الجمهورية الأولى” بمبناها الحالى, والذى طلب “عبد الناصر” حين عرضوا عليه الرسم الإنشائى لها أن تكون قاعات القراءة على النيل.. بدلا من مكاتب المسئولين.. التى كان المهندس قد وضعها فى هذا المكان المتميز.. وقد تم التعديل الذى تم وضعه بإشراف “اليونسكو”.. التى أقرت بصواب رأيه ووجاهة ملاحظته.. وفى واحدة من قاعات هذه الهيئة تم تكريم “عبد الرازق السنهورى” لحصوله على جائزة الدولة التقديرية فى إبريل عام 1970 وقبل رحيل “عبد الناصر”.. وهى معلومة يتم طمسها لاتهامه بالاعتداء على القضاء!!..

وشهدت المرحلة نفسها إنشاء “المؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى”, لتنطلق معاهد المسرح والسينما والموسيقى والأوبرا والثقافة الجماهيرية.. ويأخذ “المسرح القومى” مكان الصدارة لتشهد خشبته عروض “زقاق المدق” للأستاذ “نجيب محفوظ” ومسرحية “الناس اللى فوق” للأستاذ “نعمان عاشور” و”السلطان الحائر” للأستاذ “توفيق الحكيم” ومسرحية “المحروسة” للأستاذ “سعد الدين وهبة” و”بيوت الأرامل” التى أبدعها “برنارد شو”!!..

وتم افتتاح “مسرح العرائس” بحضور “عبد الناصر” والملك “محمد الخامس” فى شهر مارس عام 1960, وفى العام نفسه تم إنشاء “الفرقة القومية للفنون الشعبية” برعاية الدكتور “حسين فوزى” وكيل وزارة الثقافة إضافة إلى الشروع فى إنشاء “السيرك القومى” بالتعاون مع خبراء هذا الفن فى “الاتحاد السوفيتى” لكى يقدم عروضه اعتبارا من يناير 1966..

كما تأسس “أوركسترا القاهرة السيمفونى”.. وتولى “أبو بكر خيرت” تصميم قاعة “سيد درويش” كمبنى للكونسرفتوار.. وتم تقديم أوبريت “الأرملة الطروب” الذى قام بتعريبه الأستاذ “عبد الرحمن الخميسى” وحضرت عرضه السيدة “أم كلثوم”.. وكتب بعدها الأستاذ “أحمد بهاء الدين” أنه كان لا يستسيغ فن الأوبرا لأنه لا يفهمه.. لكنه بعد تمصيره إكتشف أنه عالم سحرى!!.. وكتب عن العرض الأستاذ “أحمد رجب” نص كلمة قال فيها: “نجحت الأرملة الطروب.. ونجح الجمهور.. فقد كان الجمهور ينجح والأوبرا تسقط.. حتى عرفنا أنه مطلوب مسرحيات ناجحة لجمهورنا”!!

تفرض الأسماء أن يسبقها وصف “الأستاذ” و”الدكتور” عندما تتشرف بهم الأوصاف والألقاب!!

هناك أسماء هى أعلام بذاتها.. كما “عبد الناصر” و”طلعت حرب” الذى أنقذت “الجمهورية الأولى” مشروعاته, وأضافت إليها وقامت بالبناء عليها.. بين هذه المشروعات كانت “شركة مصر للتمثيل والسينما” التى تأسست عام 1925..

أضافت إليها “ثورة 23 يوليو” قانونا يدعم هذه الصناعة صدر عام 1954 بفرض ضريبة تخصص حصيلتها لدعم السينما.. ثم أنشأت عام 1957 “مؤسسة دعم السينما” التى قدمت أفلاما مهمة منها: “الناصر صلاح الدين” و”وا اسلاماه”..

ثم كان تأسيس نقابة “المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية” مع “جمعية الفيلم” عام 1960.. وواكب ذلك إنشاء “المعهد العالى للسينما” وكل هذا كان يحدث فى وقت واحد..

يضاف إلى ذلك مشروع “الصوت والضوء” فى أهرام الجيزة وقلعة صلاح الدين, وحضر عروضه “جمال عبد الناصر” سبعة عشر مرة مع زعماء الدول الصديقة التى كانت تزور مصر للاستمتاع بتاريخ صاغه الشاعر “صالح جودت” ومازال باقيا يعانى إهمالا مع سبق الإصرار والترصد.. أما مشروعات الآثار فيكفى الإشارة إلى إنقاذ آثار النوبة عندما بدأ تنفيذ ملحمة “السد العالى” إضافة إلى المتاحف العديدة!

لا يقل ما تم إنجازه فى “الثقافة” عن إنجاز “تصنيع مصر”.. وكان ازدهار “الزراعة” يمثل الضلع الثالث فى هذا المثلث, الذى ارتبط بأسماء “عزيز صدقى” و”ثروت عكاشة” و”سيد مرعى” وثلاثتهم كانوا شركاء فى بناء هذه النهضة.. لمعت أسماؤهم إلى جانب اسم زعيم وقائد “الجمهورية الأولى”.. وتخلصت منهم “الجمهورية الثانية” واحدا بعد الآخر لتمكين الذين نفذوا خطط “تصغير مصر”!!

الحقيقة أن “عبد الناصر” ليس سحرا.. لكنهم أرادوا أن تكون “ثورة 23 يوليو” سرا!!

يحدثنا “جامعى أعقاب السجائر” عن “قصور ملكية”.. يفاخرون بها – ونحن معهم – ثم يصيبهم الخرس وهم يشاهدون إهانة هذه القصور بجعلها صالات عرض لشركات “التطوير العقارى” ثم يأخذونك إلى الاتهام برفض إنشاء قصور جديدة.. السخرية منك إذا صرخت رافضا بيع المصانع والبنوك والشركات التى دفعت مصر أثمانا فادحة لكى تبنيها أو تؤممها وتحدثها.. يرفضون التوقف أمام قرار “ماكرون” كرئيس لفرنسا بتأميم شركة الكهرباء عام 2022, دفاعا عن المصالح القومية!!

لا يمكن أن تكون المسألة “عبد الناصر” أو “السادات” والذين حكموا بعده!!

لكنها “حكاية شعب” أعطته “الجمهورية الأولى” وخدعته “الجمهورية الثانية”!!

إنكشف المستور لنجد أن “منهج الخداع الاستراتيجى” تمكن من أن يعيش لأكثر من نصف قرن.. بينما انكسر “منهج العزة والكرامة” ليلة 28 سبتمبر عام 1970.. برحيل زعيم كان صادقا فى قوله, نظيف اليد.. وكليهما وجهين لعملة يرى فيها الشعب المصرى صورته ومعدنه.. ويعلمنا التاريخ والجغرافيا مع علم الاجتماع أن الشعب المصرى يملك مخزونا من إبداع “الصبر مع الحاكم” و”الصبر على الحاكم” والفارق بينهما شاسع.. لأن “الصبر مع الحاكم” يجعله يرفض استقالته مهزوما..

وعند “الصبر على الحاكم” تكون النهاية قمة “التراجيديا” باعتبارها إبداع لأمة سبقت الأمم فى تقديم “فن المسرح” وهذه حقيقة علمية تشهد عليها دراسات لعلماء المصريات فى أوروبا.. ولنا أن نعترف بانتصار “خدم الملكية والاستعمار” على الحقيقة لأكثر من نصف قرن.. هذا ليس جديد.. فقد انتصر المماليك وحكموا مصر لأكثر من قرنين.. إنتصر العثمانيين نحو ثلاثة قرون.. إنتصر الانجليز لما يقرب من قرن.. ثم جاءت مصر وشعبها كالسيل تجرف كل هذا فى لحظة.. وتتخلص من “بنك القلق”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى