وجاء صوتها جميلاً ورائقاً وضاحكا:
يا افندم أنا أبعت لحضرتك أوبر يجيب حضرتك ويرجع حضرتك .. احنا يشرفنا يكون معانا كاتب كبير زى حضرتك
ـ انتى اسمك ايه؟
ـ بسمة يا افندم .. بسمة رامز
ـ وتعرفى منين انى كاتب يا بسمة وكبير كمان
ـ حضرتك غنى عن التعريف يا افندم ومن عملاء البنك المميزين طبعا
ـ الساعة 9 مناسب يا بسمة
وتبادلنا العنوان وأرقام التليفون وأنا مسحور بصوتها ،ماهذا الصوت يارب العالمين ؟ كيف يرن فى أذنى على هذا النحو وقد سمعت قبله مئات الأصوات الأنثوية الناعمة والمتحشرجة والمايعة والناعسة والماكرة والمتأهبة لمعركة أو لعتاب ،لقد خدعنى صوت خالتى سهير فى بداية زياراتها لبيت العباسية،كان مبهجاً يغرد ببحة قريبة من القلب ، نسمعه يأتينا من فناء البيت مع روائح التفاح والبرتقال والخوخ وأقفاص الفراخ والحمام وقلبها الملهوف على والدى، سمعته مبحوحا متكبرا وقادرا على كسر غرور البدلة العسكرية التى يرتديها زوجها الذى كانت تصحبه معها ، وعندما رأيتها للمرة الأولى عرفت سر الصور التى تملا البيت لهدى سلطان وأغانيها التى لا تنقطع ، دخلتْ البيت بصوتها إلى غرفته مباشرة ومالت عليه واحتضنته ” سلامتك يا دمى .. ابن عمى واخويا وحبيبى .. سلامتك يا غالى .. ” ،كانت تفعل كل ذلك وزوجها يجلس فى أول مقعد بجوار الباب وفريق طبى كامل كان يملأ ردهات الدور الثانى وتحركتْ فى الغرفة بصوتها وهى تنادى أمى :
ـ فاطمة .. تعالى يا فاطمة جنبى ، سيبك من كل اللى لابسين بلاطى بيضا دول، انتى تقعدى هنا تحت رجليه ، مش هيشكى وجيعته لممرض ودكتور وانتى موجودة يا حبيبتى ، وتلتفت إلى عمى : هه يا فهمى إيه الأخبار يا ابن عمى .. لو محتاج سفر بره نسفره الليلة أدى .. ده ابن المنشاوى باشا .. كانت تقولها وتوجه صوتها بكل قوته وعنفوانه نحو الصالة حيث يجلس زوجها العقيد عاصم ،وحتى بعد أن تزوجت والدى كان صوتها يتحرك فى البيت كله حتى يدخل شقتنا بالدور الأول كل صباح إذ تدخل وتقبلنى أنا وناهد وتفتح الشبابيك وترص زهريات الورد التى تحطمها ناهد بمجرد خروجها ! ، لكن سهير لم تمل من فعل ما تفعل حتى فوجئت بناهد تخرج إليها فى البلكونة وتمسك بالزهريات وتدغدغها تحت قدميها :
ـ مش عايزين ورد من حضرتك يا خالتى أم فوزى ؟
ولم أعرف من أين جاءت ناهد بهذا الآداء الكبير على سنها ، لكننى كنت أنظر إليها سعيداً بأن ابنتى الصغيرة أصبحت امرأة تدافع عن مكان أمها وبيتها ، وسهير لم تغضب لا فى هذه المرة ولا فى مرات كثيرة تكرر فيها نفس المشهد ، ولم يرض ذلك غرور ناهد بل استفزها أكثر حتى خرجت عن حدود اللياقة والأدب وشوّحت بيدها مرات قبل أن تصفع خالتى سهير على وجهها ، فتقدمت إليها اعتذر لكنها ابتسمت وحاولت أن تأخذ ناهد إلى صدرها فى مشهد درامى لم يؤثر فى ناهد بالطبع كما لم يؤثر فى موقفى الواضح والصريح منذ جاءت لتأخذ مكان أمى ، ليست القضية فى والدى فهو بالأساس ليس معنا، لكن القضية هى فاطمة البلبيسى ،ماذا فعلت هذه السيدة المسكينة فى حياتها كى تتعذب فى الحياة مع رجل مستهتر ، وتتقلب على جمر بعد الممات بسبب رغبات وشهوات امرأة جاوزت الأربعين ولديها شاب فى نفس عمرى تقريبا! كان يمكنها أن تعيش لابنها فوزى وتتركنا نستشق رحيق أمى حتى نحتمل عذاباتنا مع هذا الرجل،ولم احتمل صوت بكاء ونحيب ناهد كل صباح ، فأنا رجلها الذى لا يبكى ، وصعدتُ إلى والدى وجلست إليه فى كل أدب وطلبت منه أن ننفصل نهائيا فى الدور الأول أنا وناهد ومعنا أم كريمة ، وقلتُ إن الإيراد الذى يأتى به عمى فهمى بالإضافة الى ميراث أمى يكفى ويزيد ،كنت حازما وحاسما فاكتفى بدمعتين صامتتين وأدار وجهه ناحية شاشة التليفزيون وكرة القدم تجرى على البساط الأخضر وخلفها يرمح البلهاء الذين يشبهونه .