يعتبر “رجاء النقاش” أن “ثروت عكاشة” رجل له صوت وضوء.. ويراه بطل “الثورة الثقافية” فى زمن “الجمهورية الأولى” وجعلها تمتلك كل عناصر “القوة الناعمة” بحق.
ويرى “لويس عوض” أنه استطاع أن يكسب جمهورا عريضا للفنون الراقية فى المسرح والموسيقى والسينما..
لكن “الانفتاح الاقتصادى” نقل القوة الاقتصادية إلى الطبقات الجاهلة والساذجة, التى تعيش على الأفكار الجاهزة.. وإلى الطبقات التى تعيش على غرائزها ولغرائزها.. وتم إفقار الدولة لصالح فنون التسلية من جهة, وثقافة الوعظ والإرشاد من جهة أخرى!! وقال “صلاح حافظ” عن “مذكراتى” أنها: “ملحمة.. ولو كنت وزيرا للتربية والتعليم, لقررتها على تلاميذ المدارس ليعرفوا معنى الثقافة”!
أستطيع أن أضيف اعتقادى بأن وزيرا لم يقرأ مذكرات “ثروت عكاشة” لا يستحق موقعه.. لأن رحلة هذا “الضابط” شديدة التفرد, وإنجازاته بقدرته وفكره ومواقفه تستحق عظيم التقدير.. ولا يجب أن ننسى حقيقة حصوله على الدكتوراه من “السوربون” وأنه ترك للمكتبة العربية موسوعة “العين تسمع والأذن ترى”!
إن شئت أن تقف فى خندق “أعداء ثورة 23 يوليو” ستجد فى “مذكراتى” ما يعلمك.. كيف تنتقد هذه الثورة.. ولو حاولت أن تنتصر لها وقائدها وزعيمها, ستجد فيها ما يجعلك فخورا بها.. لأن الرجل كتب الحقيقة بشجاعة “الفرسان” باعتباره منهم.. وألزم نفسه بأقصى درجات الموضوعية, مع تقديم البراهين التى تؤكد ذلك بمستندات لا تحتمل تشكيكا!!
أتذكر هنا مقالا كتبه “عبد الستار الطويلة” كان عنوانه “تعالوا نعلمكم نحن الشيوعيون.. كيف تهاجمون اليسار”!! وتناول فيه الذين يمارسون “الردح” على أنه إعلام.. وهؤلاء كتب عنهم “جلال أمين” فى كتابه “التنوير الزائف” يقول: “إن المشغولين بتصغير الكبار, يحبون أن يصوروا ما يقومون به على أنه تنوير.. وعلى أنه جزء من حركة تحرير عظيمة للعقل البشرى.. والحقيقة أن عملية التنوير أو تحقيق انتصار للعلم لا يمكن الفصل بينهما, وبين اعتبارات الملاءمة والفائدة واللياقة”!!
كل هذه معان لا يفهمها “أراجوزات التنوير” عند نهاية “الجمهورية الثانية” فى أواخر أيامها.. والمسافة أصبحت بعيدة جدا عما كانت عليه مصر, عندما رفعت رايات إبداعها فى السماوات العربية.. وما وصلت إليه.. ثم يدعى “جامعى أعقاب السجائر” أن ذلك حدث تحت حكم “ديكتاتور”.. يحدثنا عنه “ثروت عكاشة” بتأكيد أنه كان يجيد “فن الإصغاء” وكان قادرا على الحوار.. وكان يقبل الاختلاف معه باحترام.. فقد اختلف معه تماما عندما أصر “عبد الناصر” على ضرورة الجميع بين “الثقافة والإرشاد” فى وزارة واحدة.. رفض ذلك “ثروت عكاشة” دون أن يتعرض للتنكيل أو الإقصاء.. بل ترتب على ذلك تعيينه رئيسا لمجلس إدارة “البنك الأهلى” الذى قضى فيه أربع سنوات.. ليعود نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة مرة أخرى, بعد أن سمع من الرئيس اعترافه بأنه كان على صواب.. وأن ما ذهب إليه كان الخطأ!!
كان “عبد الناصر” يملك شجاعة الاعتراف بالخطأ!!
كان “عبد الناصر” يقدر على إعلان مسئوليته عن الهزيمة!!
كما كان “عبد الناصر” بارعا فى تقدير أصحاب المواقف, بقدر احترامه لهم!!
يقول “ثروت عكاشة” أنه أوضح للرئيس أن الفارق كبير بين الثقافة والإعلام.. فالثقافة فعل استراتيجى.. أما الإعلام فهو فعل تكتيكى.. مع إيمانه بضرورة أن يعمل كليهما معا دون تنافس.. ثم يقدم حكاية تكوين فرقة “الموسيقى العربية” التى أسند تكوينها للدكتورة “سمحة الخولى” بعد أن ناقش الفكرة مع “أم كلثوم” التى تحمست لها.. وتولى قيادة الفرقة “عبد الحليم نويرة” الذى بقى اسمه مقترنا بها..
كما بقى اسم “نجيب محفوظ” مقترنا بترؤسه لمؤسسة السينما.. وكذلك “على الراعى” الذى تولى رئاسة مؤسسة المسرح والموسيقى.. ولعل بعضنا لا يعرف أن أول رئيس لأكاديمية الفنون كان الدكتور “مصطفى سويف” أستاذ علم النفس.. وأن “حسن فؤاد” الفنان التشكيلى تولى إنشاء “مركز الأفلام التسجيلية” باعتبار أن الثقافة ضرورة فى المجتمعات التى تعمل وتنتج.. فالثقافة فى هذا الزمن لم تكن سلعة تجارية تخضع لحسابات الربح والخسارة.. كما يرى كل جاهل لا يميز بين غذاء العقول والأرواح, وبين غذاء البطون الذى يعرضه الجزار وبائع الخضار والبقال!!
بعد إبعاد “ثروت عكاشة” فى الساعات الأولى لقيام “الجمهورية الثانية” التى أخذت طريقها حتى قبل “ثورة كوبري 15 مايو”.. تم إطلاق حملات تشويهه مع إنجازاته.. بدأت عملية قلب الأبيض إلى أسود من تحت قبة البرلمان, بأن يقدم أحد النواب سؤالا.. ثم يقوم “عبد القادر حاتم” وزير الثقافة والإعلام – بعد إعادة دمجهما – بإطلاق أكاذيب دون تمكين الذين يتهمه من توضيح الحقائق..
ويذكر “ثروت عكاشة” أنه حاول وخاطب رئاسة الجمهورية ومجلس الأمة وكافة الصحف.. لكنهم جميعا استمروا فى ترويج الأكاذيب كما لو كانت “بخور” يحرقونه!!.. كلهم تجاهلوا أن هذا الزمن قدم أفلاما عاشت إلى يومنا هذا بينهما “البوسطجى” الذى كتبه “يحيى حقى”.. وفيلم “يوميات نائب فى الأرياف” التى صاغها “توفيق الحكيم” إضافة إلى “الأرض” كما يروى حكايتها “عبد الرحمن الشرقاوى”.. وفيلم “القضية” الذى كتبه “لطفى الخولى” إضافة إلى فيلم “المومياء” الذى أبدعه “شادى عبد السلام”.. وحتى “شىء من الخوف” كما يرى “ثروت أباظة” وغيرها من أفلام غير المسرحيات!
شهدت “الجمهورية الأولى” إحتفالات مرور ألف عام على تأسيس القاهرة.
إحتفلت “دار الأوبرا” بالمناسبة على مدى أسبوع, وشارك فى ندوة دولية خلالها على هامش المناسبة نحو 150 أستاذ من علماء التاريخ والاقتصاد والاجتماع.. وصدر كتاب يضم مناقشة ورؤية المشتركين, ليتم دفن الكتاب..
كما تم دفن كتب تحمل مؤتمرات رسم “السياسة الثقافية” وتطورها.. وتم دفن كتاب يضم نتائج مناقشات “المائدة المستديرة لعمارة القاهرة” التى أشرف الدكتور “حسن فتحى” على الإعداد لها وإدارة أعمالها.. وكذلك أعمال “الندوة الدولية للموسيقى العربية” بإشراف الدكتور “محمود الحفنى” والدكتور “حسين فوزى”..
ليظهر نوع آخر من الثقافة يضم “أفلام مقاولات” و”مسرح سياحى” مع ظهور مسلسلات ترعاها شركات إنتاج المكرونة والزيت..
وكان ذلك نقلا عما يسمى فى أمريكا “اوبرا الصابون” التى كانت ترعى أعمالها شركات الصابون.. حتى امتد الخط على استقامته لنصل إلى إعلام تتحكم فيه شركات الإعلان ليظهر “أراجوزات التنوير” الذين ينفذون عملية تخريب العقل وتزييف الوعى, مقابل حفنة جنيهات دون اعتبار للذوق العام.. لأنهم رفعوا شعار “الجمهور عايز كدة” وبعدها راحوا يسبون المجتمع بدعوى أنه أصبح متخلفا!!
يحدثنى الدكتور “هشام أبو العينين” أستاذ جراحة الفم والأسنان فيقول: “الطبيب الفاشل يتهم المريض بأنه سبب فشله”!! ولعلى وجدت فى هذا التوصيف تفسيرا لانهيار الثقافة المصرية, التى أظلمت فيها المسارح وتحولت السينما والدراما إلى منشورات رديئة.. ثم ظهر ما يسمى “بيكا” و”شاكوش” ليمارسوا فعل فاضح يزعمون أنه غناء!!
ماذا حدث فى مصر؟!
هذا هو السؤال الصعب.. إجابته واضحة.. أصبحنا لا نعرف فارقا بين الثقافة والإعلام.. ولا فرق بين الإعلام والإعلان.. أصبح المثقف يخشى الكتابة.. يخاف الكلام.. تجنبا لاتهام بالكفر والزندقة والعيب فى ذات الحاكم..
كما كان يرى الإمام “محمد عبده” الذى تمكن من أن يلعن الطغاة وقت أن كان رئيسا لتحرير “الوقائع المصرية” ليمر الزمان.. ثم أصبحت كلمة “طاغية” محظورة لأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية كما كان يراها “أنور السادات” ويقول: “الديمقراطية لها أنياب”..
ومن يختلف معى.. “هافرمه” وعلى نهجه سار الذين حكموا “الجمهورية الثانية” وكل منهم يتباهى بأنه اغتصب الكلمة, وأفقدها شرفها فى حفلات تشويه “الجمهورية الأولى” التى لا تتوقف! لتأكيد حضور المسرح على أنه “تياترو” بمعنى لا علاقة له بالكلمة عند اهلها.. ولكى يسود هز البطن, ويختفى فن الباليه..
ويتحول الكتاب إلى نشرة ركيكة.. أما الصحف والمجلات فقد اختفت فى ظروف غامضة.. ثم يحدثونك عن “القوة الناعمة” التى لا تختلف كثيرا عن “العقول الناعمة”, وقد تم تمكينها ليصبح أصحابها نجوما!!
ينسف “ثروت عكاشة” بتجربته خرافة “المدنى والعسكرى” من جذورها!!
هناك آخرين من أصحاب الخلفية العسكرية نجحوا وتفوقوا.. هذا لا يمنع أن عددا لا بأس به من هؤلاء – الضباط – ترك وراءه فشلا ذريعا, وفسادا يصعب تحمله.. الأمر نفسه سنجده مع أولئك من الذين يحلو لنا وصفهم بأنهم “مدنيين” وهنا قدر لا بأس به منهم, أبدعوا فشلا وفسادا!! ليتأكد لنا أن كذبة “المدنى والعسكرى” لا تتجاوز كونها فتنة يستخدمها الاستعمار وأعداء هذا الوطن لضربه فى جذوره..
فقد كان “رب السيف والقلم” الشاعر والعسكرى “محمود سامى البارودى” أحد رجال الجيش, ودفع ثمن إخلاصه للوطن مع “أحمد عرابى” المفترى عليه.. بينما كان “الخديوى توفيق” وابنه “عباس حلمى الثانى” ثم الملك “فؤاد” ومن بعده ابنه “فاروق” مدنيين.. بلا خلفية عسكرية.. لكنهم أذلوا الوطن والشعب, وكانوا سواعد للاستعمار.. عثمانيا وانجليزيا.. كما أن “محمد مرسى” الذى انتخبه الشعب كان مدنيا, وشاء تنفيذ أجندة جماعته الإرهابية بدعم أمريكى واضح.. ليتأكد ما أذهب إليه.. ويتأكد فى الوقت نفسه أن توريط “القوات المسلحة” فى قضايا السياسة والاقتصاد, لا يمكن أن تكون نهايته غير وبال على الوطن..
وقد حدث ذلك قبل “نكسة يونيو 67”.. ويشرح ذلك بتفاصيل ومعلومات كان شاهدا عليها “ثروت عكاشة”.. تركها لنا فى “مذكراتى” كشهادة ووثيقة يجب أن يدققها علماء التاريخ والمؤرخين!
ترك “ثروت عكاشة” حجرا وبشرا يشهدان له بأنه أعطى لبلاده, قدر ما أعطاها “رفاعة الطهطاوى” كما كان يقول الأستاذ “رأفت نوار شيخ محامى الإسكندرية..
والمفارقة أن “الطهطاوى” كان مدنيا وانخرط فى الحياة العسكرية.. بينما “عكاشة” القادم من الجيش ترك فكرا يرقى به إلى مكانة ومنزلة شهد بهما معظم مبدعى زمنه.. وشهدت له جامعات دولية وهيئات بمكانة “اليونسكو” مع غيرها من المؤسسات المرموقة.. كما أنه ترك قائمة طويلة من الكتب التى ترجمها أو عكف على تأليفها, تضعه فى مكانة درة تاج الثقافة المصرية الحديثة.. فلم يعط الثقافة والفنون فى العصر الحديث, أحدا بقدر ما أعطى الدكتور “ثروت عكاشة” الذى تعرض إلى حرب شعواء بانتهاء “زمن الجمهورية الأولى” وكان “أنور السادات” حريصا على أن يتخلص منه بأسرع وقت لمجرد أنه مثقف رفيع المستوى.. صاحب ضمير وطنى بشهادة خصومه قبل أنصاره وهم كثر.. والوقائع تؤكد أن التربص به ليس لأكثر من أنه, كان “مايسترو الثقافة” فى “زمن عبد الناصر” الذى ذكر ماله وما عليه بموضوعية وأمانة!
يجب أن أشير إلى أننى لا أنقل التاريخ.. كما أننى لست مؤرخا.. لكننى قارىء للتاريخ.. وحق للقارئ أن يكون له موقف.. له أن يجنى ثمرته أو يدفع ثمنه.. فهذا اختيار كما تعلمت من سيرة “ثروت عكاشة” الذى عاش ومات فخورا باختياراته.. ولنا أن ندقق فى أن الذى اختاره سفيرا ووزيرا كان “عبد الناصر” كما أن الذين حاربوه وناصبوه العداء كانوا أقرانه من رجال الجيش.. والذين ساندوه وشاركوه إنجازه المبدع, وشهدوا له كانوا مدنيين من المثقفين أصحاب الضمائر الوطنية!!
تستحق لحظات نهاية تجربة وعطاء “ثروت عكاشة” أن نتوقف أمامها, لكى نتأكد من أن عملية تخريب الثقافة كانت منهجا.. كما كانت عملية تخريب الصناعة والزراعة, وغيرها من عمليات هدم أخذت عناوين “الديمقراطية” و”سيادة القانون” و”العلم والإيمان” إلى آخر الشعارات الفارغة التى استهلكتها “الجمهورية الثانية” على حساب وطن ومجتمع.. إنتهت إلى عودة “زمن الخديوى اسماعيل” الذى يختال به علينا “جامعى أعقاب السجائر” دون أن ننكر ما أعطاه للوطن, أو نتجاهل المصيدة التى غزلها له.. وبالعين ذاتها ننظر إلى كل من حكم مصر, لقناعة راسخة بأن “الجمهورية الثالثة” آتية لا ريب فيها