أسئلة كثيرة تفرض نفسها على الشعوب العربية!!.. الإجابة لا يبحث عنها الذين جرفهم الفقر إلى عرض البحر.. لا يريد أن يعرفها المعتصمون فى “جزر الفساد” المأمونة.
لا يفكر فيها نفر عينوا أنفسهم “نخبة” ليتقاضوا ثمن مواقفهم.. لا تهم أولئك الذين يحلقون فى سماء السلطة والنفوذ..
يعرفها ويخشى البوح بها الخائفون.. المرعوبون.. لأن المستبدين – حكاما ومحكومين – يملكون كل أدوات الإهانة والتشهير بأصحاب الرأى..
يتعامى عن الحقيقة كل من ارتضى رهن الوطن والشعب للأعداء!!
غابت الصحافة.. تحول التليفزيون إلى صالة ديسكو.. أصابت أمراض الشيخوخة السينما والدراما.. تحولت مجالس تمثيل الشعب, إلى “مسالخ” تتفنن فى التمثيل بجثث المواطنين.
أصبح “الدستور” جزء من “ديكور” نتباهى به أمام الضيوف الأجانب.. نسمع “أنين” القانون, ونخاف الاقتراب من أسواره العالية.. نتذكر “عبد الرحمن الأبنودى” و”أحمد فؤاد نجم” بدموع العين.. نترحم على “أسامة أنور عكاشة” و”محفوظ عبد الرحمن” و”محمد صفاء عامر” باعتبارهم حبات عقد من اللؤلؤ.. كانت بدايتها “رفاعة الطهطاوى” و”محمد عبده” و”عبد الله النديم” مرورا بالعشرات من أمثال “على عبد الرازق” و”طه حسين” و”عباس العقاد” مع غيرهم من الذين تركونا, وتركوا لنا ابتسامة ساخرة لأننا هربنا منهم.. رحنا نشترى “الرخيص” بسعادة.. فرطنا فى الغالى معتقدين أننا أذكياء.. رهاننا على “الرخاء والرفاهية” جعلنا نرمى “العزة والكرامة” فى أقرب سلة مهملات!!
يشغلنا “العملاء الجدد” بحكاية “المدنى والعسكرى” حرصا على استمرار السقوط!!
براعة الذين يعرضون هذه “البضاعة” تجعلهم يخفون تجربة “قيس سعيد” فى “تونس” وهو “مدنى” بدرجة أستاذ قانون دستورى.. يتجاهلون تجربة “الديمقراطية المحمولة على دبابة” فى “العراق” وقد فرضت “المدنى” ليعيث فى بلاد الرافدين فسادا.. مع ضرورة الإشارة إلى “الدبيبة” فى “ليبيا” وهو “مدنى” وكذلك “بشار الأسد” طبيب العيون الذى يعالج “سوريا” على طريقة “قنديل أم هاشم” كما أبدعها “يحيى حقى” من قرن مضى.. مع الاعتراف بأن “العسكرى” أخفق أغلبية الذين حكموا منهم.. وكانت قلة قليلة منهم مصابيح أضاءت الدنيا!!
إنصرفت الشعوب إلى حماية نفسها بما تيسر لها من إيمان بتاريخها وضميرها!!
مشهد من “الجزائر” يأخذنا إلى إحدى قرى ولاية – محافظة – إسمها “خنشلة” نقلته لنا كاميرا مواطن.. أم تبكى لأن ابنها الفقير, لم يجد حوله يوم زفافه غير أطفال يفتشون عن لحظة سعادة.. تأخذ الأم وابنها “العريس” مفاجأة مذهلة.. عشرات السيارات ومئات من الشباب انتفضوا لكى يزفوا فقيرا ويمسحوا دموع أم..
تعرض القنوات والصحف الحكاية, بحثا عن مشاهدين وقراء.. لم يشغلهم أن كاميرا مواطن صورت وبثت على مواقع التواصل, كشفتهم مع الذين يحكمون تلك الدولة التى نتغنى بها ونغنى لها ولكفاح أبطالها بعد أن رحلوا مرتاحى الضمير.. يذكرنى ما حدث فى “الجزائر” بما قرأت عنه وشاهدته.. فهذا شاب مصرى مغترب فى إحدى دول الخليج.. نشر على صفحته على موقع للتواصل الاجتماعى – فيسبوك – أنه كان يحلم أن يقيم فرحا لحظة زفافه.. لكن ظروفه تفرض عليه أن يكتفى بالذهاب للمطار لاستقبال “عروسه” فى صمت..
يأخذه الذهول – أيضا – حين ذهب للمطار فوجئ بعشرات السيارات لمصريين مقيمين فى نفس الدولة مع عدد من أهل الخليج الطيبين.. سبقوه إلى المطار.. ثم أقاموا له زفافا أسطوريا.. تاجرت به الصحف والقنوات الفضائية.. وهبت نسمة سعادة على شعوب تعيش فى حيرة.. نحن أمة عربية شديدة الثراء, لكن شعوبها يعيشون فقراء.. يمضغون الحسرة والحزن فى صمت.. يبلعون استهانة أعدائهم بهم, لأن الذين امتلكوا أمرهم لبسوا ضمائرهم فى أقدامهم بدلا من الأحذية!!
مشهد من “المغرب”.. إنقلب مهرجان جميل يحمل اسم “بوليفار” للأغنية إلى “حفل تحرش جماعى”.. وتحولت ساحاته إلى مسرح لعرض “البلطجة” مع اعتداء عشوائى على الناس.. لأن “مطرب الحفل” الذى يغنى ما يسمونه “الراب”, يتباهى بأنه يدخن “الحشيش” ليمارس الحرية.. لا يختلف هذا الذى تسبب فى “فضيحة” بالمغرب, عن أمثاله عندنا فى مصر.. هؤلاء يحتفى بهم “شوال الرز” وأمثاله ويغدقون عليهم الملايين باسم “الترفيه” الذى جعلوا له وزيرا.. لأننا سمحنا لمطربة لا تتوقف أزماتها وفضائحها, بأن تتصدر احتفالات انتصارات اكتوبر.. وسبق لها أن قالت عن “مياه النيل” إن من يشربها يصاب “بالبلهارسيا”.. لكى ترضى غرور جهلاء استضافوها ودفعوا لها الملايين..
فى الوقت نفسه انتفض المصريين فى الإسكندرية, ليفرضوا إلغاء حفل لظاهرة مزعجة إسمها “محمد رمضان” يمارس غرورا بأصدقائه وصديقاته من “بنو إسرائيل” ويرعاه “كبير شكلا”.. إسمه مرادف للبطش وبث الخوف فى “زمن محمد رمضان”.. لنقرأ بيانا عن إلغاء حفل آخر له فى “سوريا” مع شائعات عن إلغاء حفل ثالث – أيضا – فى قطر!! وكل هذه أحداث تتاجر بها وسائل الإعلام بحثا عن قارىء ومشاهد.. لأن القائمين عليها أعجبهم تقليد “القرداتى” فى موالد زمان.. وكل ذلك يجعل السلطة هنا وهناك, تستعين بالمطافى خوفا من انفجار براكين الغضب الشعبى.. ذعرا من زلازل محتملة, ينبئ بها عالمنا العربى!!
ما علاقة كل هذا بما أشرت إليه فى حلقة سابقة نحو “الكواكبى” و”السلطان العثمانى”؟!
الإجابة تفرض أن نعيد التذكير بالتاريخ.. كان “عبد الرحمن الكواكبى” مثقفا صاحب ضمير.. شغله أمر أمته العربية قبل أكثر من قرن.. تخلص من الخوف وراح يكتب عن “طبائع الاستبداد” فى سوريا تحت الاحتلال العثمانى.. ليذوق مرارة الخوف والترهيب والسجن.. هرب فجاء إلى مصر باعتبارها ملاذ آمن.. إحتضنه الشيخ “على يوسف” صاحب جريدة “المؤيد” وفتح له الصفحات ليكتب: “الاستبداد يضعف الأخلاق الفاضلة ويفسدها..
لأنه يفقد الإنسان عاطفة الحب.. فالمستبد لا يحب قومه.. والاستبداد يجعل الإنسان يكره وطنه, لأنه يشقى فيه.. الاستبداد يجعل المواطن لا يحب أسرته لأنه ليس سعيدا بينها.. لا يأمن لصديق خوفا من أن يكون من أعوان المستبد”!!
ذهب “عبد الرحمن الكواكبى” إلى أصل الداء.. ودفع حياته ثمنا لصراحته!!
يقول “الكواكبى” فى كتابه “طبائع الاستبداد” عن معاناة الإنسان من هذا السرطان: “الإنسان فى ظل الاستبداد لا ينعم بعزة أو رجولة.. لا يذوق غير لذة الغريزة.. الاستبداد يقلب الأخلاق.. يقلب النصح فيجعله تطاولا.. الشهامة فى ظل الاستبداد تجبرا.. الإنسانية حماقة.. النفاق سياسة.. التحايل كياسة.. الدناءة لطفا.. البذاءة دماثة ولطفا”!!
المعانى نفسها صاغها “محمود عوض” فى كتابه “أفكار ضد الرصاص” ليقول: “السلطة فى المجتمع العربى تعتبر الخوف صبر.. الجمود عقل.. التطور جنون.. التجديد إلحاد.. التفكير جريمة.. الضعف نعمة.. الجبن قيمة.. الشجاعة رزيلة.. الاختلاف خيانة.. الظلم عدل.. الظلام نور.. الطغيان قوة.. الإرهاب قانون.. الحاكم إله.. المرأة حيوان.. الشعب عبيد.. التاريخ أسطورة.. الحاضر مقبول”!! إذا كانت هذه تفاصيل الصورة.. يجب أن نتفق على حقيقة مؤكدة تقول: أن العبيد لا يصنعون مستقبلا.. الإبداع لا يصنعه خائفون.. النفاق يحقق شهرة وثروة, تتجاوز ما يمكن أن يجنيه مثقف أو عالم.. طبيب كان أو مهندس.. أستاذ جامعة كان أو صحفى!!
السياسة فى زمن الاستبداد.. تجعلك تلعق حذاء السلطة على أنه هواية!!
الجبان يرفع الصوت الحيانى لكى يسب الشعب.. يخشى أن يهمس بكلمة عن السلطة.. الجبان يفسر الجرائم بأسباب غيبية.. معددا الأسباب: السبب هو انعدام الأخلاق.. السبب هو الابتعاد عن الدين.. السبب هو غياب الضمير.. الجبان لا يعرف أن “الكواكبى” قدم الدليل على عمق الاستبداد فى الأمة.. بأن قال: “ترى الاستبداد إذا رأيت الحاكم يعيش فى ترف, ويمعن فى البذخ.. واللغة فى زمن الاستبداد تميل إلى ألفاظ التعظيم والتفخيم وعبارات الخضوع”!!
قال “الكواكبى” كلمته ومات مسموما على مقهى فى “العتبة”!!
قتله السلطان “عبد الحميد” بواسطة خدمه.. ثم مات هو سجينا ذليلا!!
ذهب “الكواكبى” وترك تشخيص المرض مع وصف العلاج.. وذهب السلطان “عبد الحميد” وانهارت الإمبراطورية العثمانية.. تغيرت الدنيا.. لم يتغير طبع الاستبداد.. يمارسه أستاذ القانون الدستورى, والطبيب.. كما يمارسه حكام خلفيتهم عسكرية.. والقتال لأجل “العزة والكرامة” رفع راياته من عاش بعد رحيله بأكثر من نصف قرن..
نناديه “أبو خالد” دون أن يدرى أن اسم ابنه جعله كذلك – خالد – وقال عنه “الأبنودى”: “إسمه جمال وجميل فعلا”.. وبقى من القصيدة “يعيش جمال حتى فى موته”.. واعتبره “نزار قبانى” إنسان من طراز رفيع فقال: “قتلناك يا آخر الأنبياء”.. قبل أن نصل لمرحلة صراخ “أمل دنقل” فى قصيدته “لا تصالح”.. وبقى للذى خلفه, ما قاله “أحمد فؤاد نجم” ساخرا “حسبة برما فى زيارة ابن الهرمة”.. وكل هذا تحفظه ذاكرة التاريخ!!
ذكر سيرة الحاكم الذى تفتقده أمته ثمنه فادح!!
التغنى بسيرة حاكم تمضى على دربه السلطة.. ثمنه ثروة ونفوذ!!
يفسر ذلك أن “الخديوى إسماعيل” الذى باع مصر, وباعها بعده أقرانه.. ينال تمجيدا واحتراما كبيرين.. لأن الشعب لم يقرأ فى “الوقائع المصرية” مرسوما أصدره يذكر فيه بالنص: “حيث أن عائلتنا المخصوصة, قد وهبوا حسب الإيجاب – امتلكوا – 425729 فدان من الأراضى – 425 ألف و729 فدان – أى ما يقرب من نصف مليون فدان..
وفى هذه الحالة طبعا سيحصل عسرا فى المعيشة.. ولأجل موارد معيشتهم قد تخصص لهم مبلغ 260 ألف جنيه من إجمالى 360 ألف جنيه مخصص لمقام خديويتنا سنويا.. بواقع 100 ألف جنيه للحضرة الفخيمة الخديوية – لنفسه – و54 ألف جنيه لوالدة الجناب العالى – أمه – و20 ألف جنيه لبرنجى هانم, الزوجة الأولى, و20 ألف جنيه لإيكنجى هانم, الزوجة الثانية, و20 ألف جنيه لأوتشنجى هانم, الزوجة الثالثة, و50 ألف جنيه لدورتنجى هانم, الزوجة الرابعة”.. فى الوقت نفسه أنعم “الخديوى اسماعيل” على الشيخ “جمال الدين الأفغانى” بمرتب شهرى قدره عشرة جنيهات.. وأنعم على الشيخ “محمد عبده” بمرتب شهرى قدره 15 جنيها.. كما أنعم على “سعد زغلول” بمرتب شهرى قدره 8 جنيهات.. نظير كتابتهم لجريدة الوقائع!!
مضى الزمن.. تفصلنا عن هذا الواقع المؤلم عشرات السنين!!
نجد أنفسنا نبحث عن سبب انعدام الضمير وغياب الأخلاق والابتعاد عن الدين.. لأننا لم نسمع عن “عبد الرحمن الكواكبى”.. ونعرف شيوخا على الفضائيات, ينافسون الفنانين فى استعراض أزيائهم.. ويشغلنا سفهاء القوم الذين جعلوهم مسئولين ونجوم مجتمع.. رغم أن عالم جليل اسمه “إبن خلدون” قال بوضوح: “إن تنصيب السفلة والسفهاء يفكك المجتمع ويهدم الأمة”.. وتجاهله السلطان “عبد الحميد” فمات مسجونا ذليلا وانهارت امبراطوريته!!