منوعات

أحمد الشهاوى يكتب : منحة الحب!

هناك نوع من البشر لا يستحق أن يعيش ، أو يُعاتب أو يُناقش في سلوكه الشاذ والغريب ، حيث يحيا على الهَزْلِ ، والفراغ ، وهدْر الوقت ، وتجفيف الحواس ، وضرب أعناقها ببندقية إهمال حاجات القلب وطلب الروح.

ومن المؤكَّد أنه يعاني مشكلاتٍ وأزماتٍ رُوحيةً ونفسية واجتماعية ؛ لأنه ” يؤمن ” بالترفُّع عن حُبِّه للمرأة ؛ إذْ يعتبرُها كائنًا لا يستأهل إسالة دم الوقت على عتباته.

ولا يستحق منحه الرعاية والعناية والاهتمام والحُب ، والانشغال به ، مع أنه « فى المرأة يكتمل ظهور الحقيقة » كما يذكر محي الدين بن عربي ، ومع أن الحُب عند البعض الآخر دين ومِلَّة وعقيدة ، ووصول إلى المعرفة الكبرى ، ( إنّ الغَرامَ هُو الحياةُ فمُتْ بهِ حُبًّا فحقُـكَ أَن تمـوتَ وتعـذُرَا – عمر بن الفارض ) ، حيث الحُب يصوغ رُوح المُحب ، ويجلو قلبه وبصيرته ، ويشف الحواس ، ويوقِظ النفس من سُباتها ، ويُفَقِّهه فيما لا يعلم ( ومنْ لمْ يفقِّههُ الهوى فهوَ في جهلِ – عمر بن الفارض ) ، ويُلْهِمُه الواردات والأحوال ، ويجعله في مقامٍ خاص ، لا ينافسه آخر في مرتبته . والحُب – الذي أعرفُ وأمارسُ – لا غرض منه ولا غاية ، ( وَبي يَقتدي في الحُبِ كُلّ إِمامِ – عمر بن الفارض ) ، إذ عند أصحاب النفوس الكبيرة والقلوب الرائقة ليس وراء الحُب مرمى ف ( كل حُبٍّ يكونُ معه طلبٌ لا يُعوَّلُ عليه .

” و” كل محبَّةٍ لا يؤثرُ صاحبها إرادةَ محبُوبِه على إرادته فلا يُعوَّلُ عليها.
” و ” كل محبَّةٍ لا يلتذُّ صاحبها بموافقة محبُوبه فيما تكرهه نفسُه طبعا لا يُعوَّلُ عليه . – ابن عربي ).

فالحُب منحةٌ وليس مِحنةً ، إذْ هو منَّة إلهيَّة يرسلها الله إلى عباده المُصطفين ، الذين ليس في قلوبهم مرض أو هوى أو غرض ، حيث يفنى العاشق في محبوبه ، إذ ( كل حبٍّ لا يفنيك عنك ولا يتغيَّر بتغيُّر التجلِّي لا يُعوَّلُ عليه – ابن عربي ) ، و يرتفع المحبوب – المرأة إلى رُتبة الألوهة ، التي هي أصلُ الوجود و عمادُه ، إذ يتم التعامل والتخاطب والتفاعل والتواصل معها بقداسةٍ :
( شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ
فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَمَا رَوِيتُ)

فالعشقُ بحرُ سُكُرٍ لا ينفدُ ، كأنه بحرٌ من الكلمات ، إذْ العاشق كلما ارتوى عطش ، وكلما أكل جاع ، ( وَهَلْ رأيت مُحبًّا غيرَ سَكْرانِ ) ، والعاشق رغم الطمأنينة والأمان اللذين يعيشهما ؛ فإنه غيرُ مطمئنٍ أو مستسلمٍ بأنه احتوى من يحب ، وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه أغلب البشر إذْ يستنيمون للوضع الذي هُم فيه أو عليه ، غير مُدركين أن الحُبَّ يحتاج إلى إدارةٍ ترعاه وتعمِّقه وتُجلِّيه وتزيده وتثقِّف شجرَ حواسه ، ولذلك نرى حولنا تجارب عشقٍ غير مكتملة ، أُجْهِضتْ بضربات الإهمال واللامبالاة والجهل والتجاهل .

والحُب هو أقصى تجليات الرُّوح ، ليس له سواحل ، يمتدُّ بطول مساحات القلب ، يرسم له جغرافيته ، ويُحدِّد لصاحبه مجاله المغناطيسي الذي يتحرَّك فيه ، وهو غالبًا مجال لا شاطىء له ولا تخُوم ، لأن الحُبَّ فوق العقل الواعي ، بما يحمل من سمُوقٍ وسُمو في الجنون ، حيث تكون نفس المُحب في أعلى درجات الإشراق ، وتكون في حالٍ حميمةٍ لا معتادة ولا مألوفة ، لا تعرف إلا المرتبة العليا من الشعور ، حيث يتجرَّدُ العاشق ويتخلَّصُ من شوائب النفس ، ويشفّ ، ومن ثم يدخله الحُب في ميلادٍ رُوحيٍّ جديدٍ له ، ويصير في شوقٍ دائم لمحبوبه :

( وَمَا زِلتُ إياها وَإيايَ لَمْ تَزَلْ – عمر بن الفارض ) ، حيث ينقل المُحب من حالٍ إلى حالٍ أخرى قد تكون هي النقيض تمامًا لما هو عليه ، حيث يعيش في مقامات البسط والفرح والرجاء ، وتنكشَّف له أحوال كانت غائبةً عنه ، تخُصُّ فقط المحبين ، ويطمئن بعد حيْرةٍ ، ويأنس بعد أرقٍ وقلقٍ ، إذ قلب المُحب مغمورٌ في ماء الوصل ، يعرُج برُوحه كل ليلة ، يفيض بالاسم الأعظم للمحبوب ، ويترقَّى من حالٍ إلى أخرى ، هي عندنا الحياة الأخرى للمُحب ؛ لأنه يخرُج من حجاب النفس ” الأنا ” ، ممزقًا الأستار والحُجب ، ليصير معدن المعادن النفيسة ، ومحل جميع الأحوال ، وفي ترقٍّ مُستمرٍ ، سره صافٍ ، سائح في المكان ، نفسه مصفَّاة .

والحُب كائنٌ مقدَّس ، وله من صفات الإله الكثير ، وفي كُل الكُتب المقدَّسة سنجد أن كلمة الحُب وحقول دلالاتها تتكرَّر بشكلٍ لافتٍ مما يشير إلى قداسته ، ولذا لا أومن أبدًا بموتِ الحب ، فمن ينفي الحُب ويُقْصِيه ويكفُر بوجوده ويراه هو والعدم سواء ، هو عندي لا يُحبُّ نفسه ، وتنتفي عنه سمات وصفات إنسانية كثيرة ، فالعاشق كائن طينته الحُب ، وماؤه الهوى ، وهواؤه العشق ، وترابه الغرام .

والحُب لا يحتاج معلمًا ولا مُوصيًا ولا ناصحًا ؛ لأن قلب المحب هو وحده القِبلة والمقْصِد والمدرسة ، وما على المُحب إلا أن يدع قلبه يفتح بابه ؛ كي تشرق شمسُه ، ويخفق جناحَا طائرِه ، وينزل مطرُ جسده بردًا ساخنًا وسلامًا جامحًا ، غير خجلان مع أن في الخجل حُبًّا لا نهائيًّا ، وأرى أن عقل المُحب في قلبه ؛ لأنَّ ( الحُبُّ أَمْلَكُ للنفسِ من العقول ) ، وقيل ” لا خير في حب يُدبَّر بالعقل ” ، و الحب – كما يذكر ابن عربي في الجزء الثاني من كتابه ” الفتوحات المكية ” ( لا يجتمع مع العقل في محلٍّ واحدٍ فلا بد أن يكون حُكم الحُب يناقضُ حُكم العقل فالعقل للنطق و التهيام للخرس ) ، والرُّوح هي من ترشد الجسد الباذخ حامل الكُنوز إلى فعل العشق الذي لا يساويه فعلٌ إنسانيٌّ آخر .

والمُحب دومًا غيرُ بعيدٍ ؛ لأنه ربما يكون أمامك أو جوَّاك أو جوارك أو حولك أو على بعد خطوةٍ أو خطواتٍ منك أو تحت سماء واحدة معك ، وأنت غافلٌ أو ناسٍ أو منشغلٌ أو غير مكترثٍ أو ذو قلبٍ لا يُبصِر .
فيمكن للمُحب أن يبيت ليلةً واحدةً مع من يحب ، تُعادل أو قد تزيد على حياةٍ بأكملها ، قد عاشها دونما معرفةِ جوهر الحُب وجواهره التي تزيِّن رُوحه وجسده معا .

والحُب كما يقول أجاتونAgathon ( لا يأوي إلى كل النفوس لأنه إذا رأى طبيعة جافة أو نفسا خشنة فإنه ينفر منها ويبتعد عنها ولا يألفُ إلا النفوس اللينة الرقيقة ، فلهذا كان أرق الأشياء لأنه يلمس بخفة (…) ألطف جزء من أرق الأشياء وألطفها ) .

وعلى المُحب أن يرى النور الجوَّاني الذي يملأ باطنه ، ويتركَ طائرَ رُوحه ؛ ليطير بعيدًا في سموات العشق التي لا حدَّ لعددها ، لأنه بالحب نرى أشياء لم نكُن نبصرها من قبل ، فالرُّوح هي التي تجذبنا وتجعلنا ندور في فلك صاحبها – صاحبتها ، لأنها الأعمق والأبقى والأهم ، وهي التي تمنحنا الطمأنينة والصدق والحُلم والحُب والأمان ، وعُمومًا المرأة تتوقُ إلى العشق وتتمنَّاه وتطلبه ، والمهم أن يكون هناك من يستأهلها ، فالمرأة بطبيعتها مُهيَّأة للعشق ، ومستقبلة له ، ومانحة إياه لمن تريد هي ، وإن بدت في خفرٍ وحياءٍ وخجلٍ ، على الرغم من أنها تدرك أن في الخجل خسارات ، لكنْ تلك طبيعتها في كُل الثقافات والحضارات ، مع اختلافاتٍ طفيفةٍ ، ففي الثقافة الفرنسية – رغم الرُّقي والتقدُّم والتحضُّر والترف المادي ، ما تزال المرأة الفرنسية تطلق المثل السَّائر – الذي ترَسَّخ في لا وعي الفرنسين وأمم أخرى بالطبع – ( الرجل هو الصيَّاد ) ، وأنها هي الفريسة المُشتهاة أو المُغْوِية ، وإنْ كنتُ أرى أن المرأة أكبر وأجلُّ وأسمَى من أن تكون فريسةً يُطاردها الرجل ؛ لأجل الفوز بها ؛ والاستمتاع بجسدها ، وهو أمرٌ بعيد – تمامًا – عن مقصدي في العشق ، وكذا تربيتي الروحية والثقافية .

فالحُب – الذي أعرفُ – ثنائي القطب ، وليس مقتصرًا على الصيَّاد ، ولا على الفريسة ، فمن غير الحُب يصبح الأمرُ ” تجربة صيد – علنًا من هاوٍ ” أو ” نزهة قنص – خفاءً من مُحترفٍ ” ، ولا حُب يحيا تحت مظلة شرطٍ أو طلبٍ أو غرَضٍ ؛ لأننا عندما نعشقُ ، يكون اليوم الذي نحياه بألفِ يومٍ مما كُنَّا عليه قبل العشق .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى