يغلى العالم العربى لدرجة تجعلك – إذا دققت – تراه فوق فوهة بركان!!
قبل أن تتهمنى بمحاولة الابتعاد, عما يجرى فى مصر.. أذكر لك أن مصر هى فوهة البركان.. هى مركز الزلزال.
هكذا حكمت عليها الجغرافيا والتاريخ.. القول بأن مصر هى قلب الأمة العربية, ليس مجرد كلام يطربنا إذا سمعناه.. يزعجنا إنكار الرافضين له باعتباره واقع.. غاب الذين يؤمنون بالحقيقة.. أو قل تم تغييبهم مع سبق الإصرار والترصد.. حدث ذلك بمؤامرة.. يجوز.. ذهبنا إليه بسذاجة.. ممكن.. يقابل ذلك أن التقليل من شأن مصر.. كان من الداخل, قبل أن يلتقط طرف هذا الخيط الخارج.. سواء فى المنطقة العربية.. أو من محيطنا الإفريقى.. وكان يحركهم سادتهم فى الغرب!!
ساذج من يعتقد أن دولة عربية واحدة, تنعم بأمن واستقرار.. صحيح أن إعلام كل دولة لا يكف عن التأكيد على أنها الوحيدة التى تملك طوق نجاة.. هذه دعاية يتم إنفاق المليارات عليها, لخطف عقول الشعوب العربية.. أملا فى تنويمها.. أو قل تخديرها فى أقل الأحوال.. ربما لأن أغلبية الذين يحكمون يعتقدون – عن صواب – أن شعوبهم لو استيقظت, ستشتعل النيران وتتحرك الزلازل!!
يدفعنى إلى هذه الرؤية متابعتى لما يحدث فى عالمنا العربى.. من الخليج إلى المحيط.. وحتى أتمكن من تبسيط الفكرة, سأركز على لقطات – بلغة السينما – تقول الكثير!
مشهد رقم واحد.. فتاة فى الأردن, تأثرت أن والدها أنفق مدخراته مستثمرا فى مطعم.. يحدثها بهمومه لأن المطعم لا يرتاده زبائن.. الأب يخشى أن يخسر ماضيه ومستقبله, بسبب تعقيدات الحاضر الذى لا يسمح للجادين بالنجاح.. فهذا حاضر يسيطر عليه “البهلوانات” فى معظم المجالات.. تستخدم الفتاة أدوات العصر “الفيسبوك”.. تكتب على صفحتها الحكاية.. تأخذ أبيها المفاجأة, فقد وجد إقبالا مذهلا على مطعمه.
الزبائن يحدثونه عما كتبته ابنته وتأثرهم به.. يطير الرجل ومشروعه من اليأس إلى الأمل.. من الحزن إلى سماء النشوة والسعادة.. الفتاة لا تصدق أن بضع سطور مجانية يكون لها مفعول هذا السحر.. تلهث وسائل الإعلام التى يتم إنفاق الملايين عليها, خلف القضية وأبطالها.. يبحث إعلام احترف الدعاية, عن بقايا اهتمام وتقدير من جانب الرأى العام.. تحقق الفتاة ومشروع أبيها مزيدا من النجاح والربح!
تكشف الحكاية معان كثيرة تستحق أن نتوقف عندها.. هى ليست “لقطة” أو مشهد فى فيلم سينمائى.. بل هى قصة متكاملة تبحث عن مبدع يفهمها.. يكتبها.. يقدمها فى عمل درامى.. يدرسها بحثا عن محاولة فهم ما يحدث فى المجتمع الأردنى.. القصة يمكن أن تجذب اهتمام العالم العربى كله.. يمكن أن تحقق مشاهدة غير عادية داخل هذا المحيط العربى.. لكن المبدعين يتم حصارهم.. إبعادهم.. يملك مقدرات الإبداع فى عالمنا العربى الباحثين عن “شوية رز”, من ساذج اغتال شخصيته شعبنا المصرى بأن خلع عليه وصف “شوال الرز” وتركه كعصف مأكول!!
مشهد رقم اثنين.. شاب ثم آخر.. فتاة.. يقرر كل منهم أن ينتزع حقه من بنوك أهدرت أموالهم.. يحمل – أو تحمل سلاح – يهدد العاملين ومرتادى البنوك.. يطلب وديعته – أمواله – لمقاومة فشل السلطة فى إخراج لبنان من مستنقع, هى التى هندسته وراحت تستمتع بغرق الناس فيه.. تتحرك الشرطة وقوات الجيش.. يتجمع الناس حول هذا البنك أو ذاك.. ينقسمون.. أغلبية تؤيد ما فعله الشاب أو الفتاة.. وأقلية تتحدث عن القانون, وضرورة احترامه حتى لا تسود شريعة الغاب.. الطرفين على حق.. الأغلبية لا ترى أفقا للمستقبل.. الأقلية تتمسك ببقايا أمل!!
ينعم “لبنان” بما يقال عنه “ديمقراطية” والحقيقة أنها “حرية صراخ” بعد تكسير المرآة التى كان يرى فيها العالم العربى وجهه.. كانت “لبنان” واحة الديمقراطية فعلا, قبل الحرب الأهلية.. قبل أن يتم صياغة “اتفاق الطائف” وهو فى حقيقته “إتفاق طوائف” تولت “السعودية أمره.. إعتقدت بعدها أنها صاحبة حق إمساك دفة هذه السفينة.. إرتبكت حين عجزت, لأن “سوريا” كانت تحكم قبضتها على الدفة.. كان ما كان لإبعاد سوريا.
جاءت “فرنسا”.. وكانت حاضرة خلف الكواليس.. جاءت “أمريكا”.. وكانت حاضرة.. ظهرت “إيران” بذكاء وفهم.. إختلف أو اتفق مع الدور الإيرانى.. لكنك لا تستطيع إنكاره.. فقد أجبرت “إسرائيل” عبر “حزب الله” على أن تنحنى!! وفقدت “لبنان” قيمتها كواحة للديمقراطية فى عالمنا العربى.. بقيت “حرية الصراخ” باعتبارها الحد الأدنى الذى لا يفرط فيه المجتمع اللبنانى.. غاب المبدعون القادرون على صناعة دراما تخطف الأبصار.. ضاع صوت العلماء القادرين على التفسير, وضبط البوصلة.. وكان هذا هو المطلوب من جانب “واشنطن” والذين معها!!
مشهد رقم ثلاثة.. هو عبارة عن مشاهد مأساوية تفجر دهشات كلها بكاء.. شاب يحب فتاة.. قرر أن يقتلها لفشله فى الفوز بقلبها.. إرتكب الجريمة فى “عز” الظهر.. كارثة بما تحمل الكلمة من معنى.. ينقسم الناس.. أغلبية تطالب بإعدامه فى ميدان عام.. أقلية تدافع عنه بكلام ساقط, ومنطق لا علاقة له بالعقل.. تشغلنا أجهزة “الدعاية” بالموضوع.
يحاضرنا “أراجوزات التنوير” فى غياب الدين.. ضياع الضمير.. إهدار الأخلاق.. الكارثة حولها “جامعى أعقاب السجائر” إلى دليل على إدانة المجتمع.. جعلوها برهانا على أن السلطة بريئة من انحطاط الأخلاق.. تألق شيوخ لا يظهرون على الشاشات دون تجهيز مما يسمى “ستايلست” لينافسوا نجوم السينما.. فهذا يظهر معتمرا “البرنيطة” مرة, وفى أخرى بزى الأزهر المحترم.. ولا مانع من الظهور منافسا صاحبنا “أبو حمالات” مرة ثالثة.. مع تغيير فيما يسمونه “اللوك الجديد” كما أهل المغنى ونجوم الأزياء.. يطل علينا من يستثمر فى القانون.
يأخذنا الذين يحركهم “الريموت كنترول” فى “واشنطن” إلى ساحة يطلقون عليها تجديد الخطاب الدينى.. ضاع الشاب الذى فقد عقله, لأنه مفلس علميا وفكريا وثقافيا.. ماتت فتاة مسكينة لم تتخيل للحظة واحدة أن تكون ضحية جنون مجتمع.. نعم جنون مجتمع, لأن المسألة ليست شاب مجنون أو مفلس عقليا.. كسب من المأساة الذين زرعوهم على الشاشات, وفى صحف أشهرت إفلاسها.
يتكرر المشهد فى الشرقية.. ثم المنوفية.. نتذكر فى الخلفية جريمة الاسماعيلية, لهذا الشاب الذى قطع رقبة أحدهم وحملها مختالا بجريمته بين الناس.. تستخدم أجهزة “الدعاية” الجرائم المروعة لتنفيذ خطط إشغال للناس عن “مصيبة اقتصادية” وصرف أنظارهم عن “كارثة مجتمعية” دون أن نسمع صوت عالم.
إختفى الذين جعلوهم ساسة ونواب.. لم يهتز رمش برلمانى واحد لما يحدث.. كلهم ذهبوا إلى سباق “النفاق المدفوع الأجر” للحديث عما يقولون عنه “إنجازات” بما حدث من تطوير للبنية الأساسية.
تجاهلوا أن “الإنسان” هو البنية الأساسية لأى مجتمع.. فقدوا الذاكرة تجاه التاريخ.. سخروا من الجغرافيا.. إعتبروا “علم الاجتماع” بضاعة راكدة.. إنتهى زمنها.. لا يقبل عليها غير الفقراء من علماء ومثقفين ومبدعين!!
لأنها مصر.. قصصها مثيرة.. مفزعة.. مؤثرة فى أعماق أهلها ومحيطها العربى.. لا تمر أيام حتى نتابع “جريمة كفر البطيخ” فى دمياط.
تموت فتاة يوم بداية العام الدراسى فى “كرداسة” بالجيزة.. تنتحر أخرى فى “المنوفية” لأسباب لا نعلمها.. الدماء تسيل على ملابس السهرة فى كل مكان.. هذا لا يمنع “الجعجاع” من التألق بسحر “شوال الرز”.. ولا يفرض خجلا على “محجوب عبد الدايم”.. مع التماس الأعذار للذى يسميه شعبنا “قزم الإعلام”.. ولا عزاء لقرين “توفيق الدقن”!!.. أما باقى “الكومبارس” لا تهمنا أدوارهم.. تأخذنا الشفقة بأصحاب “المعالى” من الوزراء.. لا نتذكر كبيرهم الذى بشرنا بأن مصر كانت عظيمة قبل “ثورة 23 يوليو” ثم انهارت بعدها!!
لأنها مصر.. أحداثها تدمى القلوب بعد أن كانت تخطف العقول!!
يمكنك أن تضيف ما ترى من مشاهد لو كنت ترى الدنيا بعيون اقتصادى.. أضف ما شئت إذا لبست “نظارة الثقافة” دون حرج على الذين يتهوننى بالتقصير فى “الكوميديا” التى نتربع على قمتها.. فقد كانت “الكوميديا” عند المصريين سلاحا فتاكا!!
إذا وصلت مصر إلى هذه الحالة.. كل شىء مباح.. حتى الجريمة من أقصاها إلى أدناها.. كما جاء على لسان “محيى اسماعيل” فى فيلم “الإخوة الأعداء” الذى قدمته السينما عندنا عن رائعة “ديستوفيسكى” الشهيرة.. لأننا نعيش فى “زمن محمد رمضان” وهو فى حد ذاته حكاية, تستحق أن نتوقف عندها.. باعتبارها مشهد مهم من مشاهد “أم الدنيا” التى تخطف أنظار عالمها العربى..
وتبقى مشاهد أخرى مهمة فى “الجزائر” و”المغرب” و”تونس” و”السودان” و”العراق” دون توقف عند “سوريا” التى تركناها تقاوم.. ولا “ليبيا” التى تركتنا وذهبت إلى حيث كان السلطان “عبد الحميد” يحكم “الآستانة”.. لأننى قدمت فقط لكى أكتب عن “عبد الرحمن الكواكبى” مع قبول اعتذار للذين لم يسمعوا اسمه من قبل!!.