منوعات

محمد عطية يكتب : إلى صفاء!

حين نظرت إليك يا صفاء لأول مرة جالسة تحت فتحة التهوية بمحطة محمد نجيب لم أكن لأصدق -ولو أقسم لي ضاربو الودع- أنك ستكونين زوجتي لعشرين عاما كاملة تشاركنا فيها وقائع من السراء والضراء.

كنت بكماء وكنت أنا أصم. هكذا نحن منذ ولدتنا أمهاتنا. جمعتنا حقائق أكثر من أن تكون مصادفات ليس أولها عبء الإعاقة وليس أخرها سكنانا في نفس الحي. رفعت يدي لسؤالك (هل هذا هو اتجاه شبرا؟) حركت ذقنك الناعم ذي الغمازة وعلامة الحسن للتأكيد “نعم”.

في ليلة جاءت بعد ذلك بعام واحد كتبنا أنا وأنت على ورق الفولسكاب الرحب وكانت تلك أسرع طرق تواصلنا (ظننتك في لقاء المترو تعلم من أنا ..حسبتك تتكلم وتسمع ولهذا خاطبتني بيدك ملوحا) اندهشت أنا وكتبت (ظننتك حبيبتي نفس الشئ.. افترضت علمك أنني أصم) .

ضحكنا سعدنا بسوء الفهم الذي قادنا إلى المأذون كي نستكمل أفراحنا بورقة رسمية وأختام وعمر مديد لألأت فيه لمبات أشواقنا بفتائل من ود وتراحم. قال لنا الأطباء في مراكز التخاطب ما يشجعنا على الاندماج بالآخرين . كان أكثر ما يثلج القلب قولهم “كل ذي عاهة جبار” .. أمنت بهذا بشدة معك ياصفاء .

لا أنسى حين وصل صوتك أذني -الذي شاء الرحمن إغلاقها ربما لئلا أضيق بضجيج الكائنات- وأنا على بعد بلاد منك. تطالبينني بالعودة فورا .. تناديني لتخبريني أن ابننا الأول صبري قرر الخروج لنور الدنيا بعد منتصف الليل .. الثانية إلا ربع .. نفس الثانية إلا ربع التي هزت فيها موجات مناجاتك قلبي.

شعرت باستغاثتك بموهبة ربانية جعلتني أقرر أنا الأخر توجيه الخطاب للوليد القادم “ارحم ماما يا صبري.. أنا جاي في الطريق” . في مكتبي بشمال المنصورة ظن كل الزملاء أن هبة جنون اجتاحتني “مراتك بخير يا إحسان.. انت بس قلقان عشان بعيد عنها.. يابختك ياعم.. مين يلاقي الحب وميتدلعش” هكذا نطقت إشاراتهم أمام عيني والتي لم تكن لأحملها على محمل الجد والتصديق.

على أول قطار طرت إليك محملا بيقين لا شكوك أنك لست بخير وأن العفريت الصغير بدأ أول مشاكساته قبل أن يحل في دنيا الأحزان المستعان على تحملها بالعشرة والإيمان.. صبري الآن وأخوته كبروا يا صفاء.. أتوكز عليهم وأتكأ أينما سرت أو جلست. ينظرون إلى صورتك يدمعون ويتوقفون حين أبكي مثلهم..يربتون على كتفي الأيمن كعادتك في التخفيف عني حين كان يتقلص العالم ويبلغ قطره “خرم إبرة”.

ترسم “فاتن” الصغيرة من أبنائنا خطوطا تصور مقتطفات من حياتنا التي لا أتجرأ على وصفها بالأيام الفائتة أو “الذي مضى” . من بينها تجمعنا المقهقه في المغارب الرمضانية ورحلات القناطر الخيرية ومصائف جمصة وفايد ورأس البر. تحفل لوحات ابنتنا بالقراصية واللوز وحب المشمش والبرقوق التي أحببتيها من بين كل ثمار الله ونعمه.. نعلق اللوحات على كل شبر بشقتنا عدا الحائط الذي يجاور أريكة الصالة،حيث نمت للأبد وسافرت لرب الكون منتظرة أن نوافيك يوما في مستقرك الأبدي.

صفاء حبيبتي الأولى والسرمدية… أوصيت أبنائي بتكرار المرور على مقعدينا في محطة الترام النفقي حيث شاءت المشيئة تعارفنا.. تشابكنا في نسيج ومصير واستغناء عن الخلائق .. تضحكين؟ اسمع بسماتك من فوق الأرض وأجيبك بوعد .. سنكون معا في النهاية.

أصارحك.. سدت أذناي حقا حين سافرت أنت إلى “هناك”. يومها تعرفت على حدود قدراتي وانكمشت كل الأقفاص على رأسي. ماتت مرشدتي وحاملة المصباح.. تركت ورائها أربعة ..ذرية صالحة ..أعمدة يتساند عليها بنياني ولا أسقط.. أراهم مجتمعين قطعا متناثرة متشظية عن تكوين واحد هو أنت.

في النصف من فبراير كل عام -موعد لفظك أخر الأنفاس، أخر الكلمات التي بوحت بها بعينيك الذابلتين (خلي بالكم من بابا ياولاد) – نضع أمام شاهد قبرك خمس ورود حمراء . لوناك المفضلان..كنت تحبين الفراولة باللبن. أحسك تسعدين بزيارتنا.

تودين لو فارقت مثواك واحتضنت كل واحد فينا. لا يحدث للأسف. لكننا نشعر بالضمة ونعود أدراجنا في ذكراك السنوية لنحتشد أمام صورتك. رسمتها فاتن في أربعينك بعد حلم جميل ناشدتيها به أن تعوض نقص صورك بفرشاتها. رسمتك هي كما أنت بالضبط.

بوركت الصغيرة. أمام البورتريه الذي وقعناه ب”إلى الأصيلة الطيبة” أريد أن تنتهي أيامي. أرفع ذراعي وأسالك “هل هذا هو اتجاه الموت؟” تجيبيني “نعم”. وتستمر قصتنا لكن في أرض جديدة.
زوجك المخلص .. وأربع ورود صغار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى