>> الفيلمان لم يولدا من العدم فقرية البرشا هي صاحبة أول مسرح شارع هو (بانوراما برشا) الذي غير العادات والتقاليد منذ 13 عاماً.. الآن الكل يعرف يوستينا ومارينا
كانت السيطرة السلفية في الصعيد تحذرنا في طفولتنا من الذهاب إلى قرية البرشا القريبة من قريتنا، لا لشيء سوى أن جميع سكانها مسيحيين، لم أكن أعرف ما الذي يمنع مسلماً من التعامل مع مسيحيين، ولم أكن مقتنعاً – ولا زلت – بأي مبرر في هذا السياق، ولكن التحذيرات استمرت بتخويف وترهيب خاصة مع تنامي الجماعات الإسلامية وكثرة جرائمها الكريهة في التسعينيات.
وعلى الرغم من أن البرشا كقرية لم يكن يعرف عنها أي ميزة نسبية تحفز على زيارتها لغير ضرورة، إلا أن التحذيرات المتكررة جعلتني أتوجه إليها في صدر شبابي بصحبة زميل دراسة مسيحي من قريتنا، ربما لأعرف سبب التخويف منها عن قرب، وتجولت بالفعل في شوارعها وأزقتها متأملاً بيوتها ووجوه أبنائها، فإذا هي قرية عادية لا تختلف عن أي قرية ريفية صعيدية بشوارعها المتربة، ومنازلها البسيطة، ورجالها المنهكين، ونسائها البسيطات المحتشمات، ما ينفي فكرة أن غطاء الرأس مرتبطة بالإسلام، قدر ارتباطها بأي مجتمع محافظ مهما كانت الديانة.
وتكررت الزيارات كثيراً لأسباب متباينة، ولفت نظري شيئان محوريان، الأول أن كل أبناء القرية منشغلون في أعمالهم على اتساعها من الزراعة وتربية الحيوانات إلى التجارة إلى الخياطة والنجارة.. إلخ، لا تنتشر بها المقاهي أو محال اللهو كغيرها من القرى، أما الشيء الثاني فهو الجبنة التي تصنعها نساؤها وبعض رجالها، هي جبنة فلاحي لكنها ليست كجبن باقي القرى، القوام مختلف تماماً، والطعم لا يمكن أن أنساه، ولا زلت أحرص حتى الآن على شراء صفيحة على الأقل منها في كل موسم إنتاج والذي يستمر فترة قصيرة في الشتاء، وحتى الآن لا زلت مشغولاً بسؤال عجزت عن الإجابة عنه، وهو لماذا لا تتحول هذه الصناعة المنزلية البسيطة، إلى صناعة منظمة، وتصبح هذه الجبنة الرائعة ماركة مسجلة باسم هذه القرية، خاصة أنها – في تقديري على الأقل – أجود وأطعم وكذلك أرخص من ماركات كثيرة وشهيرة تحتل أرفف المحال وتنفق الملايين على إعلاناتها، على الرغم من أنها ليست طبيعية ودون أي مواد حافظة كجبنة البرشا.
لكن ربما يتغير هذا الأمر بعد أن عرضت قناتا (CBC) و(DMC) في نهاية العام الماضي، فيلماً وثائقياً عن صناعة هذه الجبنة المهدور حقها، بينما البلوجرز التافهون يتحدثون عن الكريب والفريب.
عدت إلى البرشا ثانية بعد سنوات طويلة من تركي الصعيد، والتقيت السيدة دميانة نصار (أم ماريو) وسجلت معها حلقة في مارس 2020 بعد النجاح الذي حققه فيلم “ريش” في مهرجان كان في العام ذاته.
لم أتوقف في ذلك الوقت عند عناصر الفيلم من سيناريو أو حوار أو ديكور أو ملابس وغيرها، قدر توقفي طويلاً عند قرية البرشا نفسها، فهي التي حققت هذا الإنجاز بنفس السهولة والبساطة والإخلاص التي تصنع بها الجبنة، فكان كلاهما إبداعاً.. الجبنة ألذ طعماً والفيلم أكثر إمتاعاً.
لم يتوقف صناع الفيلم عند الضجيج الذي صاحب عرضه في مهرجان الجونة السينمائي، بسبب التهمة البغيضة المعلبة التي وجهها ممثل يدعى منير شريف أو شريف منير على ما أذكر، وهي تهمة “الإساءة لسمعة طنط مصر”، ربما لقناعتهم وقتها وأنا معهم في القناعة، أن منير يقدم نفسه طوال الوقت باعتباره ناظر مدرسة الوطنية، وينافس محمد صبحي في الادعاء بأنه صاحب رسالة، أو ربما لأن تلك الفترة كانت تشهد تقديم الكثيرين قرابين النفاق بأنواعه الفرض والسنة والنافلة، إلى إعلام وفن المرحلة الجديدة طمعاً في وظيفة أو مساحة أو دور، أو ربما أثيرت الضجة وكيلت الاتهامات الجاهزة لأن منير وأمثاله لم يحققوا أي نجاح في أي مهرجان، رغم “حزقهم” وتنظيرهم، كذلك الذي حققه أبناء البرشا وهم على سجيتهم.
فيلم “ريش” الذي فوجئ به كثيرون لم يأت من فراغ ولم يولد من عدم، فهذه القرية المغلفة بفقر الصعيد وإهماله، ربما هي الأولى التي كان لديها “مسرح شارع” بكل معاني الكلمة، “بانوراما برشا” الذي أسسته قبل نحو 13 سنة شابة جميلة هي يوستينا سمير، ومعها مجموعة فتيات إحداهن هي مارينا سمير، يقفن في وسط الشارع دون خشبة مسرح أو ستارة أو إضاءة أو ملابس خاصة، وربما دون نص أو سيناريو، والناس والبهائم يمرون من بينهم، يناقشن أفكاراً ثورية بالنسبة لقرية صعيدية، مثل ضرب البنات، والتحرش، والزواج المبكر، والحب في القرى، وقدمت هذه الفرقة أول عرض لها بعنوان “محكمة القرية” أظن عام 2011، وتوالت العروض التي كان لها أثر كبير في تغيير الكثير من عادات وتقاليد القرية.
قصة تأسيس هذه البانوراما هي فيلم “رفعت عيني للسما”، الفائز بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ 77 من المهرجان، والذي وصلت به قرية البرشا إلى العالمية للمرة الثانية، وبطلات الفرقة المسرحية هن أيضاً بطلات الفيلم، خاصة يوستينا ومارينا (أعرفهما تحديداً بسبب الفرقة المسرحية) واللاتي ظهرن في مهرجان “كان” وهن يرتدين ملابس السهرة السواريه، بعد نحو 10 سنوات من تأسيسهن الفرقة بملابس الريف المعروفة، وصبرن على تراب الشارع وبهائمه، حتى وصلن إلى عطور فرنسا وسجادتها الحمراء.
هي قرية لها طبيعة مختلفة إذن، لديها خصوصية شديدة تحتاج إلى رعاية مختلفة ليس بطريقة البيروقراطية العميقة في المجالس القروية أو حتى مكتب المحافظ، وإنما اهتمام بعقلية مبدع وقلب فنان، وكذلك كل القرى ذات الخصوصية الفريدة، مثل قرية شبرا بلولة في الغربية التي تنتج سنوياً 4 أطنان من الياسمين وأصبحت علامة مسجلة لدى كبار صناعة العطور في العالم مثل شاليمار، وشانيل، وقرية شقرف بالغربية أيضاً والتي بها 15 مصنعاً لتصنيع لمبات “ليد” وأقام شبابها مصنعاً في تنزانيا، وقرية ساقية أبو شعرة في المنوفية وهي الأشهر في صناعة السجاد اليدوي الذي ينافس السجاد الإيراني والأصفهاني، ولا تنافسها إلا قرية الحرانية بالجيزة، وقرية ساقية المنقدى في المنوفية أيضاً والتي تصنع وتصدر التحف والأنتيكات من الصدف، وقرية بدهل في بنى سويف التي تصدر 20 ألف طن من النباتات الطبية والعطرية سنوياً، وقرية جراجوس في قنا التي تصدر أطقم الشاي والقهوة وأطباق السرفيس من الخزف وهي الصناعة التي بدأها المعماري الأسطورة حسن فتحي، وقرية القراموص بالشرقية التي تصدر أوراق البردى لإحياء التراث الفرعوني.
كل هذه القرى وغيرها تحتاج إلى إبداع في الرعاية والاهتمام، وليس مجرد قرارات روتينية من مكاتب العاصمة الإدارية أو أبراج العلمين، فنحن لدينا كل هذا التنوع، فلا أقل من بعض الاهتمام الذي يجعل مصر تتفوق على العالم.
مرفقات:
– رابط فيلم وثائقي عن صناعة الجبنة في البرشا (https://www.youtube.com/watch?v=I9xLbSWp0WE).
– رابط فيلم تسجيلي عن فريق “بانوراما برشا” (https://www.youtube.com/watch?v=amouoCtVY0w)
