منوعات

الناقد العراقي الكبير عقيل هاشم‏ يكتب مقالًا رائعًا عن رواية مصرية «وجوه افتراضية» للروائي خالد بدوي

وصف الروائي العراقي عقيل هاشم‏  رواية وجوه افتراضية للقاص والروائي المصري خالد بدوي عالم موبوء تكتنفه العلل.
وقال إن الحياة قاسية، لكن قسوتها التي تمارسها علىَّ بلاء بلا حدود، أواصل التحايل على الحياة، حتى أتجنب عذابات الروح والجسد، ولا أسقط في بئر التلاشي.. إن تختر أن تكون وحيدا فأنت ميت، لأن الوحدة ضد الطبيعة الإنسانية، ولكن عندما تجبرك الظروف عليها فهذه بداية النهاية).

عقيل هاشم‏

تندرج رواية « وجوه افتراضية» للقاص والروائي خالد بدوي، الصادرة عن دار العرب للنشر والتوزيع 2024،الرواية الفائزة في مسابقة اوسكار المبدعين العرب.

من السرديات المعاصرة في انزياحها عن السرد الكلاسيكي , وقد تجلى ذلك في عالم السرد التجريبي، حيث أسهمت هذه الرواية عن ظاهرة اجتماعية وانسانية في اماطة اللثام عن الجسد المعطوب ومجاراة ذلك فلسفيا عن طريق الخطاب السردي الزاخر بالتحليل النفسي لهذه الاشكالية والأحداث المتسلسلة, ,سردها كاتبها بمنأى عن الكليشيهات الجاهز كونها واحدة من اشكاليات العصر لاسيما طبيعة علاقة التواصل بين الانا والاخر , والبحث عن معادل للاقصاء البحث عن الحب ومطارحة الغرام ردة فعل لانسان هذا العصر والذي يمر بهذه التجربة ويعاني القهر والوحدة حين يشعر ومنذ الطفولة انه معاق اجتماعيا ومطلوب من الاخر للانتقام، ليرزح جسده تحت وطأة العزلة والرغبات المكبوتة .. (أصحاب العاهات تكفيهم مشاعر مكتملة لحب غير مكتمل، في مجتمع يدعي الرحمة ويمارس التنمر..).

الكاتب خالد بدوي

لقد راهن الروائي خالد بدوي في هذا المنجز الروائي على فض المسكوت عنه المهمّ وتعرية ما في كهف النفس البشرية من اعطاب نفسية قهرية يمر بها الانسان والتي يواجهها بوصفها ذات مكلومة امام الاخر -المجتمع ككلّ، وعلاقة ذلك بالسلوكيّات البشريّة المُنضوية تحت مايسمى اليوم –التنمر-. سردها كاتب امتلك حرفة الكتابة بمهارة بين عالمين متناقضين تماما عالم – الواقع/ الافتراضي، نسجت الرواية ضمن سياق سرديّ له مؤثّراته المتعدّدة على عدم التقبل والتعايش بين الاصحاء واصحاب العاهات الجسدية ، التي تتجاوز المحسوس لتراهن على البعد النفسي ,وبما أن الرواية هي فنّ التجريد بامتياز، يظهر تقاطع الواقع والمتخيل –الافتراضي – التواصل الاجتماعي في بناء روائي متسلسل، ليعكس تجربة ذات تحمل عاهة جسدية تمثلت بتشوهات جسدية لبطل الرواية –جمال سعيد – وقد اجاد كاتبها بسردها بطابع حكائي قادر على التاثير بالمتلقي من خلال بث حمولات لغوية كمؤثرات فاعلة في بناء العمل ككلّ. وهذه الرواية تعبّر عن حبكة نصية تشي بفرضية فلسفية عن قيمة الجمال والقبح مابين الظاهر والمخفي وقد اشار لهذه المعادلة الكاتب ب –زهرة القطيفة المتفحة داخل اناء صدئ، ما يكسب هذه الثنائية حركية تأويلية ناتجة عن طبيعة –ماهية الجسد والروح –الجمال ونقيضه القبح داخل الحكاية نفسها، لتحيلها إلى تحديدات أكثر اتساعا من تلك الثنائيات الجدلية.

(الألم مع مرور الوقت أصبح كالملابس الداخلية، لا نشعر بها إلا لحظة اَلِارْتِدَاء، وخلال الوقت الذي تلاصق فيه أجسادنا، لا نشعر بوجودها، هكذا أحزاني اليوم سيطر عليها قانون العادة..)

لقد نبش الكاتب في حفريّات النفس البشرية المعطوبة للبطل جمال سعيد ويُحسب لهذا المزج الذكيّ بين عالمين لايمتلكها صاحبها وانما يحمل المضاد لها من القبح والالم ، وهو تقنية دمج مفهومي القبح والالم بكل أبعادهما النفسية ، وتشغلنا وتربكنا تلك الحكاية القاسية حين تبحث عن معادل موضوعي لها من الجمال والسعادة فيجدها البطل في عالمه الافتراضي وعبر صورة مخاتلة للبروفايل –لوحة الصرخة للفنان النرويجي ادفارد مونش – أصبح الوجه المتألم في اللوحة أحد أكثر الصور الفنية شهرة، حيث يُنظر إليه على أنه يرمز إلى القلق بشأن الحالة الإنسانية

وعبر هذه المخاتلة الرمزية للصورة تم التعرف بفتاة احلامه الفاتنة –عازفة الكمان-، لتباغته وتدفعه إلى محاولة الحلم بالفوز بها وتجاوز مدارات الواقع الإنساني المعطوب.

الكاتب خالد بدوي

العزلة التي مارسها بطل الرواية على نفسه ليست بمعنى الاستكانة والهروب من الواقع، قد يكون البعض من هذا واردا، ولكن عزلته هي درعه الأساسي حتى يكون مُحصنّا ضد الاخر المتنمر، ومن حشد الفوضى والتوق إلى ممارسة الصمت والإنصات الكليّ للوجدان المتمثل بالخل الوفي الصديق (محسن شريف), الضمير الحي له, ومفتاح اسراره .

ويمكننا القول إن الكاتب خالد بدوي لديه مقدرة كبيرة على تحويل وجهة القارئ من خلال الأجزاء المُقحمة الموازية مثل الجارة- حكاية رباب الجارة والمعنفة لابنها الجبان والغبي والذي سينتحر في نهاية الرواية وهذا ماكان يعتلي صدره ويشغل تفكيره للخلاص . وهذا مانكتشفه لاحقا حيرة البطل جمال في سياق الرواية، وهنا اراد الكاتب ان يمنح عمله قدرا مُعتبرا من الدينامية والإيحاء، اللذين من شأنهما أن يتيحا لفعل القراءة ذلك الانفتاح والتأويل، كمجال أوسع لإثراء المعنى – الانتحار- كمفوم فلسفي وإدراجه في سياق الكشف مباشرة للشخصية المعطوبة جسديا المُلغمّة بالدلالات النفسية ، ويمكن القول إن لغة الرواية -وجوه افتراضية ، عميقة بتوغلها في المجاز والتكثيف ، ومشدوهة بالمشاعر، متخذة الطابع الرومانسي ملاذا لاستثارة الصور الدرامية المستقاة من قريحة خصبة، وإيقاع شفاف رافده القويّ هو العاطفة، ومن الواضح أن الإحساس هو المادة النفسية للسرد ، لتطلّ علينا اللغة حيّة ومتقدة. فهي بمثابة الطاقة الخلاّقة التي يضخها السرد لتبتكر معجمها اللغوي المتفرد. ولعل الكاتب كان حاذقا في تعرية شخصياته، فأسبغ عليهم وصفا دقيقا ، ليبتكر انفعالاتهم في محاذاة الحدث والتي ما فتئت تتعاطى مع المخيلة الدرامية، لكن بعنفوان ويلّوح بأسرار تتهجى تلك المفارقات في التعاطي مع النص ، كفن يضمر الكثير من التوتر اللذيذ والغائر في لج اللغة في جنوحها و انزياحها .

(اليوم اعلنها على الملا انني فشلت في مهمتي وادركت انها مستحيلة وهي البحث عن جسد جديد لروحي. او ايجاد وجه بديل او افتراضي لوجهي المشوه تيقنت متأخرا انها اقدار والقدر سر من اسرار الله والامور كلها بيده انها دنيا فانية سياتي يوم يأاهل العافية تتمنون فيه عللنا عندما يوضع الميزان )
وفي الختام اخلص الى الكاتب تم توظيف الجسد كثيمة استثنائية ومهيمنة في أغلب مفاصل روايته ، تم سردها بحسّ دراميّ وخلاّق، وهذا النهج قوامه ليستوعب طاقة الفكرة الجنسية بصفة فاعلة ومنتجة، وغير منفصلة عن قوانين السرد المتجانس بين مشاعر الحب والغرام والتدفق الحسيّ، ما يجعل الفكرة جزءا أصيلا من نسيج السرد وليس مقحما، بل يتراءى القصد إلى استدعائه، من قبيل الاستثمار الإبداعي داخل منظومة الخطاطة السردية، خصوصا على صعيد القيمة التعبيرية، التي تبدو جريئة وصريحة، وعلى ما وقع في الخاتمة من تحولات لمجمل الاحداث ومن خلال مقال تم نشره للبطل ليفصح عن التحول والمواجهة على الفيس بوك – وجوه افتراضية -، والإشارة إلى أبعادها النفسية القادمة من الخذلان الى التحدي وابتكار دينامية التعبير الحسيّ والوجداني، خصوصا المتعلق بالاخر ومهما تكون العواقب حين تم تغير صورة البروفايل الى الشخصية الاصيلة والحقيقية بينما صديقته عازفة الكمان قد استبدلت البروفايل التابع لها الى صورة لوحة الصرخة ل ادفارد مانش ، هي كشف الذات الإنسانية للفتاة وتعتريها كضرب من حقيقية ماداخلها . بينما جمال اظهر التحدي الوجوديّ من أجل الهوية وتحقيق الذات بحسّ ثائر، كضرب من التعايش والمسايرة للواقع المناهض لتشوهات المجتمع..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى